بزشكيان والعراق: تراجع تكتيكيّ للميدان الكردي.. لمصلحة السّياسة

مدة القراءة 8 د

هل سلّم الميدان الإيراني بحقيقة أنّه غير قادر على إدارة الموقف الإيراني بمفرده؟ وأنّه انطلاقاً من رؤيته الحصرية للأمور، حان الوقت لتقاسم أو توزيع الأدوار مع القيادة الدبلوماسية؟ وأن يدخل تعديلاً في المعادلة التي فرضها في العقدين الأخيرين على الأقلّ، بحيث يقف خلف الدبلوماسية وأن يكون في خدمتها وخدمة الأهداف الاستراتيجية لإيران، بدل أن تكون الدبلوماسية في خدمة الميدان وتعمل على توفيق أنشطتها بناء على شروطه ومتطلّباته؟

هذه الأسئلة، على الرغم من تشعّبها، طفت على السطح بالتزامن مع الزيارة الخارجية الأولى التي قام بها الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان للخارج، واختيار العراق، الجار الغربي لإيران، محطّة أولى، في ترجمة سياسة الانفتاح على المحيط العربي والإقليمي التي وضعها في صدارة أولويات برنامجه السياسي.

ربّما المؤشّرات الأولى التي تجيب على هذه التساؤلات حالة الليونة التي بدأت تسيطر على خطاب “الانتقام” الإيراني لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية الذي حصل في طهران، وانخفاض مستوى التصعيد في طبيعة الردّ من الضربة القاصمة التي تفوق في حدّتها وسعتها ما حصل في الردّ على استهداف القنصلية في دمشق إلى مستوى الحديث عن الردّ الدقيق والمفاجئ والموجع، مقروناً بما قاله المرشد الأعلى عن إمكانية اللجوء إلى مبدأ “التراجع التكتيكي” الذي لا يعني التخلّي عن المواجهة، بل أن يكون الردّ منسجماً مع المصلحة ولا يتسبّب بانتكاسة قاسية قد تقلب الموازين لغير مصلحة إيران.

تشكّل زيارة بزشكيان للإقليم الكردي نقلة نوعية في العلاقة بين الطرفين التي مرّت على مدى عقود القرن الماضي بحالات مختلفة في طبيعتها،

خصوصيّة زيارة العراق.. واللّغة الكرديّة

من هنا يمكن الدخول على الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني للعراق. فعلى الرغم من أهمّية هذه الزيارة وما يمكن أن تحمله من دلالات وأبعاد استراتيجية على المستوى الإقليمي ومستقبل المنطقة وطبيعة المعادلات التي ستكون عليها… إلّا أنّها حملت خصوصية غير مسبوقة في جدلية العلاقات التي تربط البلدين تاريخياً، خاصة في الجزء المتعلّق بالعلاقة مع الواقع السياسي والجيوسياسي في الإقليم الكردي العراقي.

للمرّة الأولى في تاريخ العلاقة بين إيران والعراق، وتحديداً بعد سقوط النظام العراقي السابق في 2003، يقوم رئيس إيراني بزيارة الإقليم الكردي ويلتقي بقياداته السياسية في عاصمة الإقليم إربيل. وللمرّة الأولى في تاريخ العلاقات الإيرانية مع العراق يتعمّد الرئيس الإيراني الضيف التحدّث باللغة الكردية كاسراً كلّ الأعراف الدبلوماسية خلال لقاءاته مع هذه القيادات من دون الحاجة إلى مترجمين، وفي المقابل تحدّثوا معه باللغة الفارسية، خاصة رئيس الإقليم نيجرفان بارزاني العراقي الكردي الذي لا يتقن اللغة العربية.

تشكّل زيارة بزشكيان للإقليم الكردي نقلة نوعية في العلاقة بين الطرفين التي مرّت على مدى عقود القرن الماضي بحالات مختلفة في طبيعتها، منذ المواجهة والصدام في مرحلة إعلان جمهورية مهاباد في 22 كانون الثاني 1946، وهي التي شغل فيها الملا مصطفى بارزاني والد الزعيم الحالي مسعود بارزاني منصب وزير الدفاع في حكومة قاضي محمد. ثمّ تحوّلت العلاقة إلى محاولة استتباع وتوظيف في مرحلة في عهد الشاه محمد رضا بهلوي خلال صراعه مع الحكومة المركزية العراقية في بغداد.

للمرّة الأولى في تاريخ العلاقة بين إيران والعراق، وتحديداً بعد سقوط النظام العراقي السابق في 2003، يقوم رئيس إيراني بزيارة الإقليم الكردي ويلتقي بقياداته السياسية

على الرغم من تحوّل ناحية كرج التي تبعد نحو 40 كليومتراً غرب العاصمة طهران إلى مقرّ إقامة للقيادات الكردية بطرفَيها الديمقراطي (إربيل) والاتحاد (السليمانية)، وامتلاك زعيمَي الحزبين منازل فيها (مسعود بارزاني وجلال طالباني)، بالإضافة إلى مكاتب تمثيلية خلال الصراع الكردي مع نظام صدام حسين، إلا أنّ ذلك لم يحُل دون الافتراق في المواقف والمصالح بين طهران والقوى الكردية بعد تشكيل الإقليم وإرساء المعادلة الفدرالية في الحكم العراقي بعد التغيير الذي حصل.

إيران وعسكرها.. ضدّ طموحات الأكراد

الطموحات الكردية في بناء كيان مستقلّ وما يعنيه من طموح لتوسيع دائرته الجيوسياسية باتجاه مناطق الانتشار الكردي في إيران وسوريا وتركيا، اصطدمت بالمصالح الاستراتيجية الإيرانية، وحتى بمصالح الدول الإقليمية الأخرى. وبالتالي أعادت وضع العلاقة بين الطرفين في إطار العلاقة الأمنيّة والعسكرية التي سعت فيها طهران إلى فرض إرادتها على الإقليم الكردي والتصدّي لكلّ طموحاته، الأمر الذي فتح الباب أمام هذه القيادات للبحث عن تحالفات مختلفة تساعد في تحقيق هذه الطموحات. وربّما تجربة الاستفتاء على استقلال الإقليم في خريف عام 2017 أبرز محطّات هذه التحالفات، إلا أنّها اصطدمت بحقيقة الرفض الإيراني الحاسم واستعداد طهران للتدخّل العسكري لمنع تحقّقه.

في العقد الأخير، تحوّلت النظرة الإيرانية لإقليم كردستان العراق من إمكانية التعايش مع المستجدّ الجيوسياسي الذي فرضته الفدرالية العراقية، إلى اعتبار الإقليم تهديداً للأمن القومي الإيراني. وكانت هذه النظرة مقرونة باتّهامات إيرانية لقيادة الإقليم بتحويله إلى قاعدة لأنشطة المخابرات الإسرائيلية والأميركية وحتى الإقليمية العربية. واتّهمتها بأنّها تعمل على تهديد أمن إيران واستقرارها ووحدة أراضيها، بالإضافة إلى تنامي المخاوف الإيرانية من أن يتحوّل الإقليم إلى قاعدة إسرائيلية متقدّمة على خاصرتها الغربية، كنوع من الردّ على وجود حلفاء إيران على الحدود الشمالية لإسرائيل، الأمر الذي دفع الجانب الإيراني لحصر العلاقة مع الإقليم بقناة أمنيّة وعسكرية واحدة تمرّ عبر قائد قوّة القدس قاسم سليماني وخليفته في القيادة إسماعيل قاآني، مع تجميلها بنوع من الدبلوماسية المدروسة.

في العقد الأخير، تحوّلت النظرة الإيرانية لإقليم كردستان العراق، إلى اعتبار الإقليم تهديداً للأمن القومي الإيراني

التّحوّل الإيرانيّ المستجدّ: “تراجع تكتيكيّ”

الزيارة الإيرانية للعراق عامة والإقليم الكردي خاصة تكشف تحوّلاً جديداً في الموقف الإيراني قد لا تقف تداعياته عند حدود العلاقة مع العراق، بل تتّسع لتشمل جميع الملفّات الأخرى على المستويين الإقليمي والدولي، وفحواه أنّ مرحلة جديدة بدأت في تعامل النظام الإيراني مع ملفّاته، التي تفرض “تراجعاً تكتيكيّاً” لأولوية الميدان أمام الدبلوماسية. وهو ما حاول الرئيس الأسبق حسن روحاني التأسيس له بعد التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015 مع السداسية الدولية، إلا أنّ إمساك الميدان بمفاصل القرار حال دون تحقيق ذلك، بحيث فشل في نقل العلاقة مع العراق من المستوى الأمني والعسكري أو حصرية قناة قاسم سليماني إلى مستوى العلاقة بين دولتين وحكومتين، بالإضافة إلى أنّه لم يستطع زيارة العراق إلا في عام 2019، أي بعد مرور ستّ سنوات من رئاسته، في حين استطاع سليماني الدفع لإلغاء زيارة كان روحاني ينوي القيام بها في نيسان من عام 2016 لأنّها تتعارض مع أولويات الميدان في تلك المرحلة.

بغضّ النظر عن الصراعات المتفجّرة بين رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من جهة، وقوى وقيادات “الإطار التنسيقي” الشيعي من جهة أخرى على خلفيّة العديد من الملفّات، إلا أنّ موقف النظام الإيراني يبدو أنّه انتقل بشكل واضح بهذه العلاقة من المستوى الأمني والعسكري إلى المستوى السياسي والدبلوماسي الرسمي من دون التوقّف عند الصراعات الداخلية العراقية. ظهرت هذه البراغماتية الإيرانية في محاولات المرشد الأعلى احتضان رئيس الوزراء السوداني والتعامل معه بشكل مختلف في زيارته لطهران. وكانت أكثر وضوحاً في التعامل مع قيادات الإقليم الكردي، خاصة مع رئيس الإقليم نيجرفان بارزاني الذي استقبله في مكتبه الخاص حيث يستقبل كبار المسؤولين الإيرانيين وليس الضيوف الأجانب.

إقرأ أيضاً: واشنطن: لن ننسحب من العراق دون اتفاق أمني مع إيران

تأتي سياسة الاحتواء الإيرانية لطموحات القيادات الكردية العراقية بعد سلسلة من الضربات التي تلقّاها الإقليم في علاقته مع الحكومة الاتحادية في بغداد، التي قلّصت الكثير من مصادر قوّته وتفوّقه على المركز. إلا أنّها تمثّل مؤشّراً إلى مرحلة مختلفة تستعدّ المنطقة للدخول فيها، أساسها بوادر تفاهمات أميركية إيرانية متشعّبة ومتعدّدة المستويات وضعت العراق في صدارة الحراك الخارجي للرئيس الإيراني، ليس أقلّها ما كشفت عنه دوائر البنتاغون الأميركي والحكومة العراقية من انتهاء وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق انسحاب قوات التحالف الدولي بما فيها القوات الأميركية من العراق، الذي ستبدأ أولى خطواته الرئيسية في أيلول من العام المقبل 2025 وتنتهي بشكل كامل عام 2026. وهو ما يعني أنّ الإقليم الكردي من المفترض أن ينتقل من حالة التوتّر في علاقته مع طهران إلى حالة القبول بالاحتواء الذي ينتج تفاهماً بينهما.

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…