حضرت فلسطين بقوّة في انتخابات الأردن النيابية التي انتهت بتسجيل الإخوان المسلمين في “جبهة العمل الإسلامي” تقدّماً لافتاً. وذلك على حساب الأحزاب التقليدية القومية واليسارية والتيارات الليبرالية والمدنية وتلك المحسوبة على الخطّ الرسمي. وحملت بذلك رسائل سياسية في اتّجاهات مختلفة في الداخل والخارج في ظلّ ما يجري في فلسطين وما يترتّب عليه من انعكاسات في المملكة... وما هي الرسائل التي بعث بها الملك الأردني إلى أميركا والعرب؟
الأردنيون قلقون. أصداء حرب الإبادة في غزة تهزّ مشاعرهم وأحاسيسهم وتثير غضبهم وانفعالاتهم. أصوات الرصاص ومحرّكات جرّافات التدمير في الضفة الغربية يسمع هديرها في عمّان ومعان وإربد والزرقاء وتثير ريبة السكان من آتٍ أعظم.
إسرائيل لا تنفكّ تذكّر الأردن بأنّه جزء من دولتها الكبرى المزعومة، ومن مشاريعها الجهنّمية. فهو بالنسبة إليها ليس فقط وطناً بديلاً للفلسطينيين، بل هو بذاته مستهدف بأرضه ومياهه وجغرافيّته. ولا تزال تعتبر الحدود الطويلة بين الضفّتين وصولاً إلى العقبة خطراً استراتيجياً عليها لا بدّ من التحكّم بها والسيطرة عليها. الضمانات الأميركية لا يمكن الركون إليها. واشنطن لم تصُن حلّ الدولتين. سمحت لإسرائيل بالدوس على اتفاق أوسلو. فما الذي يضمن أن تحمي اتفاق “وادي عربة” وأن تضمن عدم المسّ بالمملكة؟
حضرت فلسطين بقوّة في انتخابات الأردن النيابية التي انتهت بتسجيل الإخوان المسلمين في “جبهة العمل الإسلامي” تقدّماً لافتاً
مظلّة أميركا لم تحمِ أحداً
تظهر الوقائع وتسلسل الأحداث أنّ المظلّة الأميركية في الشرق الأوسط لم تحمِ أحداً من الحلفاء سوى إسرائيل. لذا لا يمكن الاعتماد عليها. ولا يمكن انتظار نتائج صفقة التبادل في ملفّ غزة لوقف عجلة العدوان على القطاع الذي لم يعد مجرّد عمل ثأريّ بل صار مشروعاً لتصفية القضية وإعادة رسم الجغرافيا وإنتاج الديمغرافيا الفلسطينية.
صار الهمّ الفلسطيني همّاً أردنياً وعاملاً فاعلاً في الحياة الأردنية وجزءاً لا ينفصل عن الشأن المحلّي الداخلي، لا سيما بعد استفحال الهجمات على مخيّمات اللاجئين في الضفة وجعل البقاء فيها مستحيلاً، وتوزيع المستوطنين منشورات تطالب أهل جنين بالتوجّه إلى إربد وأهل رام الله إلى عمّان. علماً أنّ قسماً كبيراً من أهل الضفّة يحمل الجنسية الأردنية قبل فكّ الارتباط. وتالياً يمكن أن يغادر هؤلاء المواطنون إلى الأردن باعتبارهم مواطنين أردنيين. الأمر الذي يضاعف أزمة الخلل التاريخية في التركيبة الديمغرافية.
بات ما يجري في الضفة يطرح جدّياً داخل الأردن باعتباره ذا بعد أمنيّ واجتماعي واستراتيجي أردنيّ. وهكذا لم يعد ممكناً في عمّان انتظار الفعل النهائي الإسرائيلي للقيام بردّ فعل. صار التحسّب والاستعداد واجباً ملحّاً. وصارت الضفة الغربية خطّاً أحمر وخطّ الدفاع الأوّل عن الضفة الشرقية. لذا حذّرت الحكومة الأردنية ورئيسها من أنّ مجرّد محاولة إسرائيل إخراج الفلسطينيين أو تهجيرهم إلى الضفة داخل الأراضي الفلسطينية أو إلى الأردن تعتبر إعلان حرب.
الأردنيون قلقون. أصداء حرب الإبادة في غزة تهزّ مشاعرهم وأحاسيسهم وتثير غضبهم وانفعالاتهم
بين التّحدّي… والاحتجاج السّلميّ
التعبير عن الغضب الأردني ممّا يجري في فلسطين اتّخذ منحيَيْن:
– منحى التحدّي والتعاطف الكامل مع المقاومة الفلسطينية الذي ترجم في العزاء الشعبي الجارف لماهر الجازي الحويطات، مطلق الرصاص على الجنود الإسرائيليين على معبر الكرامة، وقبل ذلك في التظاهرات والاحتجاجات الصاخبة في محيط السفارة الإسرائيلية استنكاراً للمجازر في القطاع.
– ومنحى التعبير السلمي من خلال منح الأصوات في صناديق الاقتراع لرافعي شعارات التضامن مع الفلسطينيين. علماً أنّ التفاعل الشعبي مع عملية الجازي طغى على كلّ مظاهر الاهتمام بالانتخابات النيابية التي ربّما أرادتها السلطة تنفيساً للاحتقانات الداخلية.
أعادت الانتخابات حزب “جبهة العمل الإسلامي”، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، إلى الواجهة. إذ حصل مرشّحوه على 31 مقعداً من أصل 138. وعلى الرغم من حلوله في المرتبة الأولى بين الأحزاب المتنافسة إلا أنّه لم يتمكّن من انتزاع الثلث المعطّل في مجلس النواب. إذ اكتفى بنسبة 22% من أعضاء المجلس. وتعتبر هذه النسبة العليا في التاريخ النيابي للحزب الذي تعرّض لانشقاقات عدّة، ولم يتجاوز عدد نوّابه التسعة في الانتخابات السابقة.
تظهر الوقائع وتسلسل الأحداث أنّ المظلّة الأميركية في الشرق الأوسط لم تحمِ أحداً من الحلفاء سوى إسرائيل
الإسلاميّون تقدّموا في المدن والعشائر
تقدّم الإسلاميون في عدد من المحافظات وفي دوائر العاصمة عمّان، مع وجود فروقات كبيرة بينهم وبين قوائم الأحزاب التي تبعتهم، مثل أحزاب “إرادة” و”الميثاق” و”الوطني الإسلامي”. وحصلوا على أصوات متقدّمة وغير مسبوقة في المناطق ذات البعد العشائري، لا سيما بدو الشمال وبدو الجنوب.
ساهم في تصدّر المعارضة “الإسلامية” التماهي مع خطاب حركة “حماس” في ظلّ العدوان على غزة والقدرة التنظيمية لـ”جبهة العمل” والإفادة من السخط الشعبي على سياسات الحكومة والتدهور المعيشي، في مقابل ضعف تمثيل الأحزاب المنافسة الأخرى، وحداثة تجربة الأحزاب الجديدة في العمل الحزبي، واعتمادها على “الفرد الواحد”.
لا تزال السلطة الأردنية قادرة على السيطرة على الغضب وعدم انفجاره بوسائل عدة، لا سيما بالسيطرة الأمنية والقدرة على الضبط وتوظيف هذا الاحتقان في توجيه رسائل إلى من يهمّه الأمر في الداخل والخارج.
طوال السنوات الماضية وقّع أعضاء مجالس النواب أكثر من سبعين مذكّرة، بعضها بالإجماع تطالب بإلغاء معاهدة وادي عربة وقطع العلاقات مع إسرائيل، لكنّ الحكومة لم تناقشها وبقيت في الأدراج. كذلك حصل في شأن معاهدة الطاقة.
الوجود الكبير للإسلاميين في البرلمان يضفي حيوية على الحياة السياسية، ويعطيهم تأثيراً أكبر في القرارات المتعلّقة بالتشريعات الدينية والاجتماعية
رسالة “الملك”… إلى أميركا
الوجود الكبير للإسلاميين في البرلمان يضفي حيوية على الحياة السياسية، ويعطيهم تأثيراً أكبر في القرارات المتعلّقة بالتشريعات الدينية والاجتماعية، لا سيما تلك المتعلّقة بالقيم الإسلامية أو القوانين الأسرية وقوانين الأحوال السياسية. لكنّه يظلّ قاصراً عن إحداث تحوّل جوهري في السياسات العامّة، لا سيما الخارجية. بيد أنّ حصوله على خلفيّة دعم غزة والمطالبة بإنهاء معاهدة السلام، يشير إلى مشهد أردني جديد يوجّه رسائل تحذير إلى الخارج وطمأنة إلى الداخل. فهل تستخدم السلطة الأردنية هذا التحوّل الداخلي لتنبيه الجوار القريب والبعيد إلى مخاطر تجاهل النزيف الفلسطيني وانعكاساته الخطيرة على المملكة؟
ربّما الرسالة الأهمّ هي لأميركا وإسرائيل، ومفادها أنّ تنامي التطرّف اليهودي في إسرائيل إلى أقصاه ليس من شأنه سوى إعادة تركيب نظام الأوعية المتّصلة، ودفع التطرّف الإسلامي إلى أقصاه أيضاً في دول الجوار، لا سيما في المدى الأقرب الأردن، وأنّ هناك معارضة حقيقية في الأردن لا يمكن تجاوزها تُظهر تغيّر مزاج الشارع وقد تفرض واقعاً جديداً على الأرض. هكذا سيكون على واشنطن والغرب، قبل استفحال الأمر، الدفع جدّياً نحو وقف الحرب والإبادة وليس الضغط على الأردن لتقديم تنازلات.
ربّما هناك رسالة أخرى إلى دول الجوار الغنيّة مثل السعودية والإمارات التي يضيرها صعود حركات الإسلام السياسي، لا سيما “الإخوانية”، في المنطقة، بأنّ التدهور الاقتصادي وحجب المساعدات والأوضاع المعيشية الخانقة في الأردن هي أسباب إضافية لتغذية التطرّف ومدّ الحركات المعارضة بالمنشّطات وموادّ التحرّك.
لذا العمل على حصر تنامي هذه الحركات يتطلّب ليس فقط الضغط السياسي على إسرائيل، إنّما أيضاً منع الأردن من السقوط اقتصادياً. ويصير هذان المطلبان أكثر إلحاحاً مع التطلّعات الإيرانية إلى فتح ثغرة أردنية للتقدّم إلى الحدود الشرقية لفلسطين في ظلّ العلاقات المعقّدة بين طهران وهذه الحركات الإسلامية.