استعادت السياسة الفرنسية شكلها التاريخي مجدّداً. نجحت في التصدّي لتهديدات اليمين المتطرّف للسلطة. أثبت نموذج جبهة الجمهورية ولو انتخابياً فائدته.
يعتبر ظهور اليمين المتطرّف في فرنسا ظاهرة سياسية مهمّة جداً، وعلى مختلف الصعد والمستويات (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية). تراوح مشواره منذ تأسيسه على يد العسكري السابق جان ماري لوبان تحت اسم حزب الجبهة الوطنية في عام 1972 بين صعود وهبوط، على حسب اختلاف الظروف السياسية والحقبات الزمنية. هو حزب يميني متطرّف. تألّف عند التأسيس من قدامى المحاربين الذين خاضوا حرب الجزائر والمتعاونين الفرنسيين من نظام فيشي (نظام الحكم في فرنسا بين عامَي 1940 و1944).
اليمين شبح الجمهوريّة
يعتبر اليمين المتطرّف شبحاً دائماً على الجمهورية والإدارة الفرنسية، خاصة أنّ برنامجه وأفكاره تتعارض ولا تتوافق مع رمزية الفكرة المنشأة وجوباً في جمهورية 1958، القائمة على مرونة المؤسّسات الرسمية، مع متغيّرات المجتمع واتجاهاته بما يصون استمرارية الدولة واحترام مبادئها، أبرزها:
1- الحرّية وتكافؤ الفرص.
2- المساواة وتوازن الالتزامات والحقوق والواجبات.
3- العدالة لجميع المواطنين.
4- الأخوّة في المواطنة الفرنسية والوحدة في المجتمع الفرنسي غير القابل للتجزئة.
مسلّمات اليمين المتطرّف
يتّصف اليمين المتطرّف الفرنسي بالتعصّب القومي السلبي أكثر من الانعزالية. يعارض في جوهره كلّ مسلّمات الدولة الفرنسية الحالية. إنّه انعزالي وطني وانفكاكي قارّياً. تتلخّص أيديولوجيّته عبر ثلاث مسلّمات هي:
1- العداء للأجانب: تتجدّد هذه الفكرة في كلّ حقبة عبر نمطيّات مختلفة. وهو ما يتعارض في الجوهر مع تأسيس الجمهورية الفرنسية، التي تُعتبر إلى حدّ بعيد دولة حماية المهاجرين.
2- السلطويّات: التأكيد الدائم لقسرية النظام، وسلطوية استخدام العنف بحجّة الحفاظ على الأعراف والتقاليد.
3- الشعبوية: تكمن من خلال تحكّم البسطاء والممتعضين والناقمين بمضمون الحياة السياسية حتى تكون معبّرة أكثر عن الإرادة العامّة والحقيقية للشعب.
لم يفُز اليمين إلى اليوم في أيّ معركة واستحقاق ديمقراطي، سواء أكان برلمانياً أو حتى رئاسياً. لكنّه يتقدّم ويتطوّر بقوّة
صعود اليمين المتطرّف الحقيقيّ
بدأ الحزب بالتقدّم والصعود الحقيقيَّين بعد ثلاثة عقود من تأسيسه في عام 1972، أي في عام 2002 الذي كان عام الاستحقاق الرئاسي. عادت وتكرّرت معركة عام 2002 الرئاسية الشرسة في نسق تشريعي ضروس هذه المرّة. حدث ذلك مع وصول جان ماري لوبان، مؤسّس اليمين المتطرّف، والد رئيسة التجمّع الوطني الحالية مارين لوبان، إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. كان قد أُقصي في ذلك الوقت المرشّح الاشتراكي ليونيل جوسبان. حينها تمكّن الرئيس الراحل جاك شيراك، الديغولي النزعة والجمهوري الملتزم، من هزيمته رئاسياً مع نسبة مرتفعة من التصويت تخطّت 80%.
لم يفُز اليمين إلى اليوم في أيّ معركة واستحقاق ديمقراطي، سواء أكان برلمانياً أو حتى رئاسياً. لكنّه يتقدّم ويتطوّر بقوّة. يتمدّد بشكل دقيق وكبير. يستغلّ الأخطاء المحلّية، والإخفاقات الدولية والقارّية. كسب المزيد من الثقة في المجتمع المحلّي الفرنسي. نجح إلى حدّ كبير في تغيير مزاج الكثير من المواطنين وإقناع العديد منهم على الرغم من:
– هزيمة اليمين المتطرّف في الانتخابات التشريعية الأخيرة واحتلاله المرتبة الثالثة.
– دخوله مرحلة الصدمة والأسف، والشعور بالإحباط نتيجة الفشل الآنيّ.
– تحوّل الأنشطة الحيوية المنسّقة والمعدّة سلفاً، وكذلك الاحتفالات المبرمجة والمهيّأة سابقاً، إلى مجالس عزاء، بسبب الحرمان الثلاثي من الأغلبية المطلقة، دخول ماتينيون على رأس الحكومة العتيدة، والتحكّم بالجمعية الوطنية.
بُعثرت الفورة اليمينية المتطرّفة حالياً، لكنّها خطر دائم وتهديد موجود، حتى من خارج الحكم، لا سيما من خلال:
1- استغلال الغضب المجتمعيّ المشترك على صورة خلافات طبقية: ثمّة موجة من الغضب العارم في أوساط المتطرّفين في فرنسا، وخاصة اليمينيين منهم المتحدّرين في أغلبيتهم من مناطق الأرياف، وفقراء المدن كذلك. من وجهة نظرهم، يعتبرون أنّه قد تمّ إقصاؤهم عن السلطة من خلال خداع منمّق تمّ عبر تحالف بين أبناء الطبقتين الوسطى من أبناء المدن، ونخبة المؤسّسات الحاكمة. من شأن ذلك أن يؤسّس لشرخ طبقي ومناطقي يتغذّى منه اليمين ويعزّز مكاسبه مستقبلياً.
يعتبر اليمين المتطرّف شبحاً دائماً على الجمهورية والإدارة الفرنسية، خاصة أنّ برنامجه وأفكاره تتعارض ولا تتوافق مع رمزية الفكرة
2- حدّة الاستقطاب السّياسيّ: ساهمت الظروف الداخلية الفرنسية نتيجة الكثير من المشاكل في تشكيل مناخ محلّي غير صحّي. برزت سمات الاستقطابات السياسية الحادّة غير المشهودة من قبل في فرنسا. لم يعد مصطلح الخصومة السياسية موجوداً في الحياة السياسية كما في السابق. انقسمت الساحة الفرنسية إلى عدّة ساحات، وكلّ واحدة منها لديها فريق يرى في الآخر الفرنسي خطراً وجودياً وأنّ عليه أن يغيّر في قناعاته أو يقضي عليه. ومن الممكن جداً أن تؤدّي هذه المشهديّات إلى حالات كبيرة من الفوضى والتظاهرات، وحتى الصدامات والأعمال العنفية.
3- استثمار حالة الاستياء وتحويلها إلى تعبيرات عمليّة ميدانية: ذلك ما حذّر منه الرئيس ماكرون حرفيّاً عند استخدامه مصطلح الحرب الأهلية، من خلال الانتقال من حالة الشعور الحسّي بالنقمة والتململ، إلى التعبير عنه عبر الترجمة العملانية السلبية والفوضوية واستخدام الشارع الفرنسي، ليس فقط في التظاهرات السلمية، بل وفي العودة إلى الاحتجاجات التي كانت فرنسا شهدتها في السابق، وربّما هي مقبلة عليها.
4- الخطاب الفكري الشعبوي: تهدف تأثيرات اليمين المتطرّف الشعبوية والراديكالية في الأصل إلى تسجيل المواقف والتعبئة المستمرّة في صفوف الأنصار. يستعمل بكلّ مكر تسويق الخطاب التحريضي. يسعى من خلاله إلى التشويش الإعلامي، وليس التأثير الفعليّ. يساعد ذلك في توليد الأفكار الناقمة والممتعضة واستمالتها واستغلالها، وحتى لو لم يصل إلى الحكم، فهو لا يعرف التصرّف أصلاً مع السلطة، ولا حتى مع المعارضة، فهو نهج موتور في السياسة. لكنّ هناك خوفاً من أن تمهّد هذه الخطوات المتواترة لجوّ مشحون وغير منضبط يؤدّي إلى فوضى شعبوية، وهو ما يشكّل تهديداً مباشراً للدولة وأعمدة حكمها.
يتّصف اليمين المتطرّف الفرنسي بالتعصّب القومي السلبي أكثر من الانعزالية. يعارض في جوهره كلّ مسلّمات الدولة الفرنسية الحالية
نظريّة الاستبدال الكبير
يتبنّى اليمين المتطرّف نظرية “الاستبدال الكبير” التي تنصّ على أنّه يتمّ استبدال السكّان الأصليين في فرنسا بشكل منتظم بغير الأوروبيين عبر نظريّة الهجرة الجماعية. تؤسّس هذه الرواية الأصل الأيديولوجي والثقافي لمعظم أفكار اليمين المتطرّف والكره للأجانب والمهاجرين. هو تشكيل سياسي ضدّ الديمقراطية في الأساس. يكره الحداثة السياسية والتنوّع الفكري والرأي الآخر. قبِل بالديمقراطية اليوم لأنّها مطيّته. دخل بها النزال في حال وفّرت له الأصوات الكافية من أجل انتخاب نوابه في البرلمان. يؤسّس بكلّ موضوعية بيئته الحاضنة. ينتظر فرصة الإطباق على المؤسّسات والانقلاب على الدولة إذا توافرت لكي يكمل من داخل السلطة ما بدأ به من خارجها.
سقط اليمين المتطرّف الفرنسي مرّة جديدة. حُرم على الأقلّ بشكل مؤقّت من تسلّم السلطة التشريعية، وظفره بتولّي الحكومة.
إقرأ أيضاً: خطّة ماكرون لتأليف الحكومة: تقسيم اليسار.. وترميم الوسط
تشكّل قوس الجمهورية من جديد. وسيتشكّل مراراً عند كلّ استحقاق. ساهمت كثافة نسبة الانتخاب في تعطيل قطار اليمين. وتمكّنت من تحويل تقدّم اليمين المتطرّف، واحتلاله المرتبة الأولى، واستحواذه على ثلث أصوات المقترعين في الجولة الأولى إلى خسارة له. لكن هل يتمكّن اليمين من بلوغ السلطة مستقبلاً؟ من يعلم ما الممكن؟! هذا يتوقّف على احترام السلطة والنخبة الحاكمة الفرنسية لقيم ومبادئ الجمهورية، وعدم شخصانيّتها أيضاً.
لمتابعة الكاتب على X: