هي ساعات قليلة بين تهديد أطلقه الأمين العام للحزب، وبين تنفيذه. فقد ردّ على اعتداءات إسرائيل بضرب مستوطنات جديدة: أيبريم ، ونيفيه زبف، ومتوت. وذلك ردّاً على استهداف بلدة الجميجمة في جنوب لبنان. وهو ما رفع وتيرة المواجهة وسرعتها وبنك أهدافها. كذلك كانت المرّة الأولى التي يستخدم فيها الحزب صاروخ “وابل الثقيل”. تطوّر ميداني يشي بتوسيع نطاق الحرب الجغرافي، وبأنّ الحزب ماضٍ في التدرّج بكشف قدرات عسكرية جديدة. كذلك استخدم نوعاً جديداً من المسيّرات المتطوّرة. وفي الوقت نفسه، كانت “غرفة عمليات” تابعة لـ”وحدة الساحات”، ترسل طائرة مسيّرة من اليمن في رحلة استمرّت 9 ساعات، انفجرت في تل أبيب، على مقربة من سفارة أميركا، مخترقة دفاعات الغرب كلّه، من أميركا وبريطانيا، وصولاً إلى القبّة الحديدية. فهل باتت المعادلة الجديدة: تل أبيب مقابل الجميجمة؟ أو بمعنى أدقّ: المدنيون سيقابلهم قصف عاصمة العدوّ؟
تشي الساعات العصيبة التي يعيشها جنوب لبنان بأنّ حرب إسرائيل “الواسعة” لم تعد بعيدة. بل ربّما دخلنا أولى أيّامها لأنّ تصاعد استهداف مسؤولي الحزب، دون اكتراث بالمدنيين، يؤكّد صدور قرار سياسي بتوسيع مروحة العمليات. وربّما نقترب من سيناريو غزّة، حيث سنبدأ الاعتياد على تعداد أرقام المدنيين في الاستهدافات المقبلة.
أيضاً بات أكيداً وجود خرق استخباري ومعلوماتي كبير جعل قدرات إسرائيل على تحقيق أهدافها عالية. وفي المقابل، تقول وقائع الميدان إنّ قدرات الحزب العسكرية الهائلة لم يُكشف النقاب عنها كاملة بعد.
من يسأل الحزب يأتي الجواب أنّ احتمال استمرار الحرب ما زال قوياً، لكن مع استبعاد فرضية توسيع رقعتها أكثر ممّا هي عليه اليوم.
قصف الحوثيين تل أبيب وسّع دائرة احتمالات الحرب. لم يعد بالضرورة أن يكون الجنوب ساحتها الوحيدة
العين بالعين.. وخرق كبير؟
قواعد الاشتباك في جنوب لبنان تبدو ثابتة. وعلى الرغم من أنّ الحزب بدأ الحرب في 8 تشرين الأوّل 2023، إلا أنّه بات في موقع ردّة الفعل: تصعيد يقابله تصعيد. تضرب إسرائيل فيردّ الحزب. بعدها تتحرّك الاتّصالات الدولية. فيعيد الطرفان الالتزام بحدود سقف المعركة وعدم الانجرار إلى حرب شاملة.
الاغتيالات لم تعد حدثاً جديداً. بل تدخل ضمن سياق الحرب. وضمن هذه القواعد يندرج استهداف بلدة الجميجمة. لكنّ الجديد هو عدم الاكتراث بالمدنيين. وربّما يكون ردّ “غرفة العمليات الموحّدة” من اليمن إلى تل أبيب هو الردّ على “توسيع قواعد الاشتباك”. فهل 20 مدنياً من الجرحى في الجميجمة يقابلهم ضرب تل أبيب؟
إصابة إسرائيل أهدافها بدقّة، وهذا العدد المهول من الاغتيالات في صفوف الحزب، وتصفية عدد من قادة المعارك أصبحت تطرح علامات استفهام حتى داخل الحزب نفسه حول ما إذا كان ثمّة خرق بشري أو مخابراتي.
لغز يوليه الحزب اهتماماً كبيراً. وإن كانت مصادره تستبعد وجود خرق بشري لعناصره ويرجّح فرضية الخرق التقني المعلوماتي: “منذ فترة طويلة تكشّفت داتا المعلومات واستطاع العدوّ توظيفها من خلال الذكاء الاصطناعي. واليوم نتحدّث عن إجراءات مشدّدة قدر المستطاع”.
لكن إذا كانت الاغتيالات جزءاً من الحرب، فإنّ قتل المدنيين ليس كذلك. لذا حين تقتل إسرائيل مدنياً يرتفع مستوى ردّ الحزب. وهذا ما حصل باستهداف مستوطنات جديدة، فتسارع إسرائيل إلى إبلاغ اليونيفيل أن لا نيّة للتصعيد. وهذا ما شهدته الساعات الأخيرة بعد استهداف الجميجمة التي أعقبها مباشرة قصف الحوثيين عمق تل أبيب على مقربة من سفارة أميركا، بطائرة مسيّرة.
ثمّة خشية من أن يرتكب نتنياهو حماقة بأن يخطر له الردّ مباشرة على اليمن. ساعتئذ تنتقل المنطقة إلى حرب شاملة
اليمن في عمق إسرائيل: رحلة 9 ساعات
أخذ اليمن على عاتقه توسيع المواجهة من خلال عملية تل أبيب، بالتأكيد بالاتفاق بين “ساحات المقاومة”. في خطابه الأخير والذي سبقه، هدّد زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي بانتقال المعركة إلى المرحلة الخامسة: ضرب العمق الفلسطيني المحتلّ، أي حيفا ويافا وأسدود، وستلي هذه المرحلة حتماً المرحلة الرابعة التي بدأت بضرب البحر الأحمر.
ليس تفصيلاً ضرب تل أبيب بطائرة مسيّرة حلّقت لأكثر من تسع ساعات دون أن تكشفها الرادارات البحرية الجوّية والبحرية الإسرائيلية أو الحليفة. وهو ما خلق إرباكاً كبيراً وفجوة ضخمة في الدفاع الجوّي الإسرائيلي، وفي منظومة الردع الغربية كلّها.
يرفض الحزب أن يكون إرسال المسيّرة من اليمن ردّاً على ضرب الجميجمة. تقول مصادره إنّ “الردّ إنّما يكون باستهداف الحزب مزيداً من المستوطنات وليس عن طريق اليمن”. وتتابع المصادر: “كلام الحوثيين كان واضحاً يوم أعلنوا رغبتهم بإنشاء معادلة جديدة للردع. كان استهداف يافا (تل أبيب) عملية عسكرية بامتياز، وأصابت مبنى على بعد أمتار من السفارة الأميركية في إسرائيل”.
برأي هذه المصادر سيكون المستفيد الأوّل من ضربة اليمن هي حركة حماس عبر رفع سقف مفاوضاتها والدفع باتّجاه ضغط أميركي على رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. وهي في الوقت نفسه رسالة تقول: “إذا كان اليمن أرسل طائرة صغيرة قصفت عمق تل أبيب فما الذي سيفعله الحزب بطائراته المسيّرة”. هنا أيضاً يدخل الضغط النفسي كعامل ضروري في صلب المعركة وينجح في الضغط على نتنياهو الذي اهتزّت حكومته وتزايد معارضوه.
هل يرتكب نتنياهو حماقة؟
ثمّة خشية من أن يرتكب نتنياهو حماقة بأن يخطر له الردّ مباشرة على اليمن. ساعتئذ تنتقل المنطقة إلى حرب شاملة. الذي ساعات قليلة تفصل عن إلقاء نتنياهو خطاباً في الكونغرس الأميركي. التحليلات كثيرة، ومنها إعلان قراره بالحرب الشاملة في جنوب لبنان، ووقف المفاوضات، أو الدخول بعدها في تسوية.
ليس تفصيلاً ضرب تل أبيب بطائرة مسيّرة حلّقت لأكثر من تسع ساعات دون أن تكشفها الرادارات البحرية الجوّية والبحرية الإسرائيلية أو الحليفة
يستبعد الحزب أن تنعكس زيارته للولايات المتحدة سلباً على لبنان. وإنّما الخشية من انعكاساتها السلبية على قطاع غزة. لكن تقول معلومات عن مصادر ملمّة بالتطوّرات عن قرب إنّ نتنياهو “تلقّى نصائح دولية بأن يلتزم في جنوب لبنان قواعد الحرب الدائرة حالياً وألّا يتجاوزها ولا يفكّر بالردّ على ساحات العراق واليمن لأنّ ذلك سيعني دخول المنطقة حرباً شاملة لا استعدادات لها بعد”.
لكلّ هذه الأسباب يستبعد الحزب أن تكون لزيارة نتنياهو وخطابه في الكونغرس انعكاسات على توسيع نطاق الحرب، لكنّ الخشية من أن يعلن الانتقال إلى المرحلة الثالثة في غزة، أي وقف إطلاق النار من جانب واحد، وأن يعتبر نفسه منتصراً، خصوصاً في ظلّ معلومات تقول إنّ إسرائيل ربّما تمكّنت من اغتيال محمد الضيف، ولم توقف تحرّياتها للتأكّد من ذلك.
للتذكير، فإنّ إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد هي خطوة ستحرج ساحات المقاومة وستجمّد المفاوضات، لكنّها ستطلق يد إسرائيل لشنّ عمليات ساعة تشاء.
لكن كيف سيردّ الحزب؟
على ساحات المقاومة تُسمع وجهتا نظر. واحدة تستبعد توسّع جبهة الحرب، وأخرى تقول إنّ الوضع الراهن وتعثّر المفاوضات لا يُحسمان إلّا بحرب تفرض التفاوض الجدّي، وإنّ كلّ الموفدين الدوليين إلى لبنان يمارسون إضاعة الوقت وأنواعاً من الخداع لأنّ إسرائيل حين تصبح جاهزة لتوسيع الحرب ستوسّعها.
تتبنّى حماس هذا الرأي. وتقول مصادرها المقرّبة إنّ نتنياهو لن يذهب إلى مفاوضات جدّية قبل زيارته الولايات المتحدة ولا بعدها لأنّه بات يقول إنّه ليس من مصلحته تسليف رئيس أميركي خاسر هو جو بايدن. لكن ما دامت الدولة العميقة في أميركا تدير المعركة فلا يمكن لها أن تقبل بوجود معادلات جديدة في المنطقة. لذا تتحضّر لخوض معركة كبرى تعتقد أنّ نتائجها ستكون لمصلحتها.
إقرأ أيضاً: مخطّط نتنياهو يتقدّم: فتح في غزّة… والجيش في الجنوب
يبقى أنّ الحزب يأخذ في الحسبان أنّ أيّ حرب ستكون شاملة. قصف الحوثيين تل أبيب وسّع دائرة احتمالات الحرب. لم يعد بالضرورة أن يكون الجنوب ساحتها الوحيدة. هناك ساحات أوسع وأخطر. والميدان يطوّر نفسه، والكلمة الأخيرة له.