معرض أسامة بعلبكي: ضوءٌ حَنونٌ.. في رثاء مدينة مُظلِمة

مدة القراءة 9 د

يفتح الفنان التشكيلي اللبناني أسامة بعلبكي، في معرضه “ضوء داخلي” الُمقام في “غاليري صالح بركات” في بيروت، غُرف مخيّلته الواسعة والمكثّفة، مورِّطاً زائر المعرض بلعبة فكّ شيفرة التناقضات الجامحة والتلميحات والغموض، ليُنقّل ناظريه ومخيّلته هو أيضاً بين الضوء والعتمة، المظلم والمضيء، الواقع والمتخيّل، الماضي والحاضر، الحدثيّ والحدسيّ، بين العدميّة والرغبة الشديدة في الحياة… هنا جولة في المعرض، وفي لوحاته، وحديث مع أسامة.

اختار الفنان التشكيلي أسامة بعلبكي (46 سنة) الذي شاركت أعماله في متاحف وغاليريهات ومعارض عالمية، أن يفتتح معرضه الانطباعي التعبيري في بيروت، بلوحة يصوّر فيها جمهوراً يُمعن النظر في بورتريه الفنان فينسينت فان غوغ، وكأنّهم في حضرة صلاة أو تعبّد لهذا الفنّان القدوة الذي عاش منسيّاً ومنعزلاً بعيداً عن ضوضاء العالم المتوحّش والعدميّ.

قد يكون بعلبكي الحاصل على الميدالية الفضية للرسم من دورة الألعاب الأولمبية 2009، أراد التعبير عن امتنان ما لفان غوغ الذي لطالما لاحظ متابعوه أنّه متأثر به، وبحساسيّته تجاه الضوء والطبيعة والتفاصيل والعزلة والصدق في التعبير عن المشاعر، وتحويل الوحدة والبؤس إلى إبداع روحي وجمال. وهو خلق من هذا الاستقبال الحافي لعبة أو علاقة ثلاثية بين جمهور حيّ معاصر، وهم زوّار المعرض، وجمهور فان غوغ العالمي وبعلبكي واحد منهم، وبين الفنّان الرمز.

يفتح الفنان التشكيلي اللبناني أسامة بعلبكي، في معرضه غُرف مخيّلته الواسعة والمكثّفة، مورِّطاً زائر المعرض بلعبة فكّ شيفرة التناقضات

يقول بعلبكي في حديث لـ”أساس”: “أشعر بقرابة روحية مع فان غوغ فنّاني المفضّل الذي حوّل كلّ خساراته إلى كنز روحي. ولطالما كان الفنّان الذي ألهمني وتمنّيت أن أكون على شاكلته منذ صغري، خصوصاً أنّ لوحاته مشبّعة بعواطف لم تهدأ حتى اليوم ومكتنزة بالوجدان والتوتّر والخليط من الحركة والصراع وهذه الرغبة بالتعاطف والنور الذي يحيط لوحاته بحنان”.

صحو فكريّ وروحيّ

معرض “ضوء داخلي” هو نتاج حوالى خمس سنوات من العمل بين 2018 و2024، ويتضمّن جزءاً من أعمال بالمئات لم تعرض كلّها. اختيرت منها خمسون لوحة من الأحجام المتوسّطة إلى الكبيرة والجداريّة، مشغولة بمادّة الأكريليك على القماش. يشرح بعلبكي أنّ “القيمة المشتركة بينها من دون فرض إرادة هو الضوء الذي ينبع من مصدر طبيعي أو ضوء اصطناعي، ضوء الدواخل الروحية والفكرية”.

لعبة الضوء ملاذ بعلبكي منذ سنوات طوال وسمة ترافق أعماله. وهو طوّر طريقة تصويره له وضربة ريشته لسطوعه وخفوته وكثافته في لوحاته، وكأنّه دليل على نضوجه الفنّي وطريقه الخاصّ الواقع بين الانطباعية والرومنطيقية والواقعية الساحرة.

يعتبر أنّ “الضوء قيمة أساسية في بلادنا ويشكّل جزءاً كبيراً من الروح والهويّة اللبنانيّتين. وهو الخطّ الفاصل بين الصحراء والمتوسط. ضوء يشبه صحو الفكر وصحو الروح التي تحمل منحى إغريقياً”.

بعلبكي في حديث لـ”أساس”: “أشعر بقرابة روحية مع فان غوغ فنّاني المفضّل الذي حوّل كلّ خساراته إلى كنز روحي

تطغى على لوحات المعرضين الحالي والسابق ألوان الغروب والغسق. ويستعير بعلبكي ألوان الغروب للإشارة إلى عالم مضطرب يعيش هاجس الأمراض وخراب الطبيعة والحروب. وهي مسائل ظاهرة عبر اللون المتأكسد والأبخِرة التي تذكّر بحدث مأساويّ وسوداويّ.

كأنّ ألوان بعلبكي تحتفي بالعالم وتؤبّنه.

لماذا؟

يجيب: “كانت لديّ حاجة ورغبة خاصة بالعمل على ثيمة النور، نور النهايات والغسق الذي يترافق مع أزمات العالم الحديث واختناقه بتلوّث معنوي وروحي. وهذا النور الغسقيّ يطال الأسطح كلّها، وهو تذكير للوجدان بأنّه يجب تجاوز هذا التبلّد البصري والمعنوي”. ويعتبر أنّ “هذا التناقض في الألوان ومساحات الضوء، آتٍ من وضعنا الحالي حيث نعيش في انحدار خُرافيّ”.

لكن ما هو المعنى اللونيّ والتشكيليّ للغسق والمسحة النُحاسيّة التي تطبع كلّ المشهد؟

يحبّها لأنّها “تُؤاخي شخصيته الرومنطيقية الميّالة إلى سبر أغوار العالم العاطفي بعتباته وأنواره. وهناك نوع من العتمات يشعّ في ضوئنا، وهذا المعرض قائم على فكرة أنّ أعمق الأنوار أحياناً يطلع من أعتى العتمات”، بحسب قوله.

أزرق اليقظة

وماذا عن اللون الأزرق الذي يغلّف غالبية لوحاته كغشاء ضبابيّ؟

هو المفضّل لدى بعلبكي “لأسباب غامضة، وربّما لأنّ الأزرق هو مَصلُ الحياة ولون الفضاء، فالأزرق مع الألوان الحارّة والنحاسية والكئيبة أو الشاحبة يُعيد إحياءها بتناقض الحامي والبارد. إضافة إلى أنّه “يحمل إيقاع الأمل والرجاء وخفوت للروح اليقِظة في داخلي”، يقول.

يصف بعلبكي بيروت بأنّها كائن عملاق وقلِق يحوي بشراً تختلط لديهم الرغبة بحياة سعيدة وعامرة بتذمّر شديد وصعوبة

يشرح أنّ هناك عاملين يكملان بعضهما “هما الانشراح والانقباض في المشهد، ويعودان إلى طبيعتي الشخصية التي تنظر إلى الحياة برغبة طافحة فيما تميل أحياناً نحو التشاؤم والتفكير الخافت أو الذي يلحظ شحوب العالم”.

من هنا نفهم لماذا تحمل لوحات بعلبكي وجهين متناقضين، المأساوي – السوداوي، والاحتفائي – النهضوي: “حتى المأساوي أصوّره وفيه شهيّة ورغبة بالحياة، دائماً لوحاتي يقظة… حتى عندما أصوّر بيروت من فوق تكلّلها غيمة التلوّث، نلحظ حناناً تجاه المنظر وأملاً كأنّه منزلٌ يضيء من بعيد”.

لكن على الرغم من التشاؤم والوحدة اللذين يشعر بهما: “لا أترك نفسي أسقط في نوع من العدميّة الخالصة، لأنّ الانحدار والانهيار موجودان في الواقع، والفنّ مهمّته ووظيفته الإحياء ورفع همّة ومنسوب الحياة”.

بيروت ملعب الخيال والمباشر

بيروت هي مسرح مجمل لوحات بعلبكي خصوصاً، كأنّه يمشّط المدينة ويرصد تفاصيل تحوّلاتها وتوتّراتها. فكيف ينتقي مشاهده ومواضيعه؟

“من مراهقتي وأنا دائم التجوّل في شوارع بيروت مشياً على الأقدام. لم أقتنِ يوماً سيّارة. ونشاطي الثاني بعد الرسم هو المشي وتسريح العين بالشجر، بالسماء، بالغيوم، بالمباني التي تتراءى لي كأنّها شخوص بلحظات الضوء بحسب اتّجاهاته… بيروت هي ملعب للخيال والمباشر، هي أليفة، وأحياناً تُشعرني أنّها تُغنيني عن زيارة العالم… بيروت تمثّل لي شيئاً من الكفاية”.

المخيّلة لها دور كبير في تجاوز الأبواب المسدودة في الحياة، بالنسبة لبعلبكي، ويغذّيها بقراءاته وبزياراته للمتاحف والمدينة ليلاً

عن غُرف المخيّلة والوحدة وثالثهما

يصف بعلبكي بيروت بأنّها كائن عملاق وقلِق يحوي بشراً تختلط لديهم الرغبة بحياة سعيدة وعامرة بتذمّر شديد وصعوبة: “نحن نعيش كلّ ذلك في بوتقة واحدة من المشاعر الثقيلة والمشاعر الفرحة… هناك شيء غريب وغامض في ما نعيشه في لبنان، إذ نتذمّر ونغرق في مشاكل كأنّها أزلية، لكن في الوقت نفسه تربطنا علاقة غرامية بحياتنا ومدينتنا”.

لكن في خضمّ العيش على حافة الهاوية والصخب، ألا تزال المدينة تغري بعلبكي؟

“الحياة في هذا المعترك تتضاعف جاذبيّتها لأنّ الاشتهاء القويّ للحياة ينتج أحياناً عن الصعوبة وعن الحياة غير الرتيبة. فهناك شيء مشوّق في كلّ وجودنا الجغرافي واللونيّ والضجيجيّ، مع أنّه أحياناً يزيد عن الحدّ ويرسم صوراً عالية التوتّر. لكن لا مفرّ إلا أن يحبّ الإنسان بلاده، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ فكرة فتح الحدود بين الشعوب كانت مثل ترويج تجاري، وفعلاً مسقط الرأس هو مثل بيت العائلة وهناك قرابة عائلية تجمعنا بشعبنا، من دون هذا التضخيم الوطني”.

يضيف: “لبنان هو الطارد لنا والملاذ. وإذا خلق الواحد منّا نفقاً خيالياً لنفسه داخل هذا المعترك وهرب فيه، وخصوصاً الرسّام أو العاملين في المجالات الإبداعية، يمكنه أن يستوعب إشكالات الحياة ويحوّلها إلى مادّة للعمل”.

المخيّلة لها دور كبير في تجاوز الأبواب المسدودة في الحياة، بالنسبة لبعلبكي، ويغذّيها بقراءاته وبزياراته للمتاحف والمدينة ليلاً وبتأمّل الشجر والغروب والحالات الضوئية المختلفة.

أراد بعلبكي تشويه الصورة الدعائية للزعيم: هذا نوع من الاحتجاج على الزعامة عندما تُدنّس على الحيطان. هو فعل فوضوي يقوم به الناس

للمخيّلة قصص ظريفة يرويها بعلبكي: “المخيّلة غُرف وأنا أشعر أحياناً أنّني كائن متعدّد الوجود”. تروق له الفكرة فيضحك ويتابع: “كأنّ لي نظيراً أدبياً أو مثاليّاً، وهذه الفكرة تسلّيني وترافقني منذ كنت صغيراً وتظهر في أحلام اليقظة عندي فأبدو كأنّني أكثر من شخصية وأقوم بأدوار مختلفة… هذا الأمر يحيي العملية الفنّية ويملأ الشغور الذي تخلقه الوحدة لأنّه صحيح أنّني أميل إلى العزلة أحياناً، لكنّني أخاف من الوحدة المتصحّرة، وأرغب دائماً بزيارات حقيقية أو خيالية. التخيّل والمخيّلة من أكبر حلفائي في تحمّل ما لا يمكن أن يُحتمل، وهو العالم بصورته الحالية”.

الفنّ ممارسة للتّداوي

تضيع المسافة بين الخاصّ والخارجي ويحتلّ المنحى الشخصي صدارة أسطح لوحات بعلبكي الكلاسيكية في أصلها والمبنية بناءً جادّاً على الرغم من معاصرة أفكارها. كما تحتلّ لوحة لعائلته صدر غاليري صالح بركات في لوحة بديعة ضخمة: “مزاولتي للفنّ فيها منحى شفائيّ أو تداوي من كلّ مظاهر القلق. استوديو التظهير عندي فيه شيء رومنطيقي، أفكّر كثيراً في المنظر. والمنظر الخارجي عندي هو داخلي في الوقت نفسه. التوحّد مع الزمن ومع موضوع اللوحة ومع المشاعر التي يبثّها هذا الاستغراق بالعالم الحامل للتوسّل الشِعري والوجداني”.

إقرأ أيضاً: مثقّفو فرنسا استفاقوا متأخّرين: كيف وصلنا إلى هنا؟ (1/2)

تلميح وغموض وامّحاء

يشرح ختاماً أنّ في صورة العائلة غلافاً ضبابياً آتياً من الذاكرة: “فيها شيء فوتوغرافي. هي زيارة لوجه أمّي وأخوتي قبل أن أولد، وهي رغبة وصول واستِعادة”. وعلى كلّ حال الاستعادة موجودة في جانب كبير من أعمال بعلبكي بمعنى الاستعادة والرغبة الشديدة بالعودة إلى صور قديمة وذكريات. وهي أعمال بعيدة عن المباشرة والحدث ولا تحمل رسائل أو قضايا كبيرة، بل تحمل نكهة الروح الحدسيّة. وقضية اللوحة عند أسامة بعلبكي هي التلميح والغموض في التلميح إلى معانٍ وصور يعيشها. فلوحة “الزعيم” هي صورة من الهوامش الحائطيّة أو الخربشات التي نراها في الشوارع. أراد بعلبكي تشويه الصورة الدعائية للزعيم: “هذا نوع من الاحتجاج على الزعامة عندما تُدنّس على الحيطان. هو فعل فوضوي يقوم به الناس ليتفلّتوا من سطوة حضور الرجل السياسي أو العمل العامّ… وفيها مخزون من الصراع اليومي على معنى السياسة الحاضرة في بلادنا كهوس. وفيها تلميح إلى فكرة الامّحاء (وهو نوع من قتل المختلف والآخر)، وهو شائع في حياتنا وبلادنا”.

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…