كير ستارمر: زعامة يساريّة بهوى يمينيّ

مدة القراءة 6 د

في كانون الثاني 2019 قدّم زعيم حزب العمال البريطاني آنذاك، جيريمي كوربن، اعتذاراً بسبب الهزيمة المدوّية التي مُني بها الحزب في الانتخابات العامّة. كانت تلك الهزيمة هي الكبرى منذ عام 1935. بعد 5 سنوات من تلك الهزيمة وذلك الاعتذار، أطلّ زعيم الحزب الحالي، كير ستارمر، ليحتفل بانتصار ساحق لحزبه أتى على حساب هزيمة صاعقة لم يعرف حزب المحافظين المنافس مثيلاً لها منذ نشأته عام 1834، فكان على زعيم “المحافظين”، ريشي سوناك، بدوره أن يأسف ويعتذر ويستقيل.

 

بنتائج قريبة ممّا حقّقه الحزب، بقيادة توني بلير، عام 1997، حصل حزب العمال على 412 مقعداً (من إجمالي 650 مقعداً في مجلس العموم) مقابل انهيار لحزب المحافظين بحصوله على 121 مقعداً. ربح الأوّل 212 مقعداً إضافياً، وخسر الثاني 252 مقعداً. وعلى الرغم من أنّ استطلاعات الرأي سبق أن توقّعت خلال الأسابيع الأخيرة، بنمط ثابت، هزيمة للمحافظين لمصلحة حزب العمال. لكنّ النتائج أتت مدوّية، لا سيما أنّ شخصيات قيادية خسرت مقاعدها، مثل رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس ووزير الدفاع غرانت شابس وبيني موردانت التي كانت مرشّحة لتولّي زعامة الحزب مستقبلاً.

انتصار غير متوقّع

صعود وانتصار حزب العمال، بزعامة كير ستارمر، لم يكن متوقّعاً قبل سنوات، حتى داخل الحزب نفسه، إثر خسارته للانتخابات قبل 5 سنوات فقط، بخاصة أنّ زعيم الحزب، الذي كان محامياً في مجال حقوق الإنسان ومدّعياً عاماً، وجهٌ لم يكن معروفاً ولامعاً، ولطالما انتُقد لعدم تمتّعه بالكاريزما القيادية الفذّة، علاوة على أنّ برنامج “العمّال” لا يُعتبر انقلابياً ولا يحمل ترياقاً مقنعاً لانتشال البلد من أزماته مقارنة ببرنامج “المحافظين” وأحزاب أخرى منافسة.

لا يختلف ستارمر في الموقف من “البريكست” عن موقف المحافظين بدعم هذا الخيار الذي حرّض عليه اليمين الشعبوي المتطرّف

يمكن أن يُسجّل لستارمر الذي كان مقرّباً من زعيم الحزب السابق، كوربين، وداعماً له، أنّه أهّل حزب العمال خلال السنوات الخمس الماضية ليكون “حزب حكومة” لا حزباً أيديولوجياً راديكالياً على النحو الذي أراده زعيم الحزب السابق. كان واضحاً أنّ الكتلة الناخبة لم يغرِها عام 2019 حمل حزب يساري يجنح لاشتراكية نافرة ولخطاب “أمميّ” إلى الحكم. فكان على ستارمر أن يعيد الحزب إلى موقعه الوسطي المائل نحو اليمين وفق نسخة معدّلة من تلك التي عمل عليها سابقاً توني بلير.

تولّى ستارمر قيادة الحزب بعد “صديقه” كوربن. لكنّ هذا التغيّر كان دراماتيكياً لاحقاً. انقلب ستارمر على سلفه، وتحت عنوان القضاء على معاداة السامية داخل الحزب، أبعد ستارمر كوربين وتيّاره في عملية “تطهير” واسعة أعادت تموضع الحزب على النحو الذي يمكن تسويقه، يوماً ما، ليكون بديلاً مقبولاً بإمكانه جذب أصوات اليمين والوسط قبل اليسار. ومع ذلك، فإنّ ستارمر لم يكن يحلم بهذا النصر لولا أنّ الحزب الحاكم وفّر له ظروف هذا الفوز.

قصّة النهاية للمحافظين

تآكل حزب المحافظين خلال 14 عاماً من الحكم. تناوب 5 زعماء على قيادته منذ عام 2010، وبالتالي تداول على منصب رئاسة الوزراء 5 زعماء محافظين، منهم 3 منذ عام 2022. بدا أنّ الحزب العريق غادر الثبات والاستقرار والانسجام والوضوح وراح يتخبّط في سياسات تجريبية. كانت أكثرها فداحةً موافقة زعيم الحزب ديفيد كاميرون على مجاراة الجناح اليميني في الحزب وتنظيم استفتاء عام 2016 لخروج البلاد من الاتحاد الأوروبي. كان كاميرون متيقّناً من فشل الاستفتاء، لكنّ مفاجأة الصناديق كشفت أنّ البريطانيين اختاروا “البريكست”. استقال كاميرون حينها وسكن الظلّ إلى أن أخرجه سوناك إلى النور في تشرين الثاني 2023 وعيّنه وزيراً للخارجية.

في كانون الثاني 2019 قدّم زعيم حزب العمال البريطاني آنذاك، جيريمي كوربن اعتذاراً بسبب الهزيمة المدوّية التي مُني بها الحزب في الانتخابات العامّة

فاز حزب العمال ونجح رهان زعيمه ليس حبّاً بيسارٍ قادمٍ بل كرهاً بحزب يميني حاكم يراكم فشلاً فوق فشل ويجني خيبة تلو خيبة. لم يقُم فوز العمال على معطيات مجهولة. ففي أيار الماضي حقّق الحزب انتصاراً في الانتخابات المحلّية. أظهرت النتائج آنذاك فوز الحزب بأكثر من 180 مقعداً ورئاسة 8 مجالس محلّية إضافية، فيما خسر المحافظون نحو 470 مقعداً و10 مجالس محلّية على الأقلّ. وفي تلك الانتخابات فاز رئيس بلدية لندن العمّالي المسلم صادق خان بولاية ثالثة.

ستارمر

الواقع أنّ بريطانيا انتقلت من حالة عدم ثقة البريطانيين بحزبهم الحاكم إلى حالة الأمل ببديل يتمنّونه أفضل من دون إيمان كبير. أظهرت استطلاعات الرأي أنّ البريطانيين لا يثقون بالوعود الانتخابية، حتى تلك التي أطلقها حزب العمال الفائز. كما أنّ بريطانيا لم تنتقل من اليمين إلى اليسار، ذلك أنّ برنامج “العمّال” ومواقف زعيمه يقتربان من وسط يميل إلى يمين على نحو انتهازي ويروم إرضاء الطبقات الشعبية وعدم استفزاز الطبقات الثرية. وعد ستارمر بعدم رفع ضريبة الدخل والتأمين الوطني ولم يَعِد برفع الضرائب على الأغنياء، لكنّه قال إنّه قد يدرس ذلك. وعد بإلغاء تدابير الحكومة السابقة بنقل المهاجرين غير الشرعيين إلى راوندا، ونفّذ ذلك في أولى جلسات حكومته، لكنّه أدرج ذلك تحت بند تكلفة الأمر لا عدم أخلاقيّته.

ستارمر ودعم إسرائيل

لا يختلف ستارمر في الموقف من “البريكست” عن موقف المحافظين بدعم هذا الخيار الذي حرّض عليه اليمين الشعبوي المتطرّف بقيادة نايجل فاراج. وللمفارقة فإنّ هذا الأخير الذي سعى 7 مرّات إلى دخول البرلمان وفشل، نجح هذه المرّة في إيجاد موقع له مع 4 من أتباعه في حزب “إصلاح UK”، بما يمثّل اختراقاً تاريخياً لليمين المتطرّف يتّسق مع اختراقاته في أوروبا وآخرها في فرنسا من دون أن يصل إلى السلطة. لم يَعِد ستارمر بالعودة إلى الاتحاد الأوروبي متمسّكاً بالرمادية الملتبسة للعمّاليين في هذا الصدد، لكنّه وعد بالعمل على تحسين الشراكة مع “الاتّحاد”.

انقلب ستارمر على سلفه، وتحت عنوان القضاء على معاداة السامية داخل الحزب أبعد ستارمر كوربين وتيّاره في عملية “تطهير” واسعة

عبّر ستارمر منذ حدث “طوفان الأقصى” عن مواقف قصوى في دعم إسرائيل تتّسق مع الحملة التي قام بها لـ “تطهير” الحزب من معاداة السامية. ذهب أكثر من ذلك في المزايدة على المحافظين في دعم إسرائيل منتقداً حكومة لندن لعدم الذهاب بعيداً في تقديم هذا الدعم.

إقرأ أيضاً: بريطانيا الهادئة إلى اليسار.. وفرنسا القَلِقة إلى اليمين

وحين كانت شوارع البلد تعجّ بالغاضبين ممّا يجري في غزة ومن حرب إسرائيل ضدّ القطاع وأهله، صوّت وحزبه ضدّ قرار في البرلمان البريطاني يطالب بوقف إطلاق النار هناك، قبل أن يتطوّر موقفه، ربّما لأسباب انتخابية وبسبب ضغوط يسار الحزب، ويطالب بوقف إطلاق النار في غزّة و”درس” الاعتراف بالدولة الفلسطينية. على هذا تحتفي صحف إسرائيل بزعيم بريطانيا الجديد وتسلّط الضوء على يهوديّة زوجته وعائلة لها في إسرائيل.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

إلى الدّكتور طارق متري: حول الحرب والمصالحة والمستقبل

معالي الدكتور طارق متري المحترم، قرأت مقالك الأخير، بعنوان: “ليست الحرب على لبنان خسارة لفريق وربحاً لآخر”، في موقع “المدن”، بإعجاب تجاه دعوتك للوحدة والمصالحة…

“حزب الله الجديد” بلا عسكر. بلا مقاومة!

أكّد لي مصدر رفيع ينقل مباشرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله: “أنا لا أثق بأيّ اتّفاق مكتوب مهما كانت لديه ضمانات دولية من أيّ قوى…

هل تنأى أوروبا بنفسها عن عقدة محرقة غزّة؟

بعد 412 يوماً من الإمعان في إشعال المحرقة في فلسطين ولبنان، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير جيشه المخلوع…

لبنان “صندوق بريد” بين إسرائيل وإيران

ما تسرّب من “المبادرة الأميركية” التي يحملها آموس هوكستين مفاده أنّه لا توجد ثقة بالسلطات السياسية اللبنانية المتعاقبة لتنفيذ القرار 1701. تقول الورقة بإنشاء هيئة…