معلوم عن دبلوماسية الفاتيكان أنّها هادئة لا تدخل في زواريب الخلافات السياسية في أيّ بلد كان. إنّما ترسل إشارات باتّجاهات معيّنة تراها للمصلحة العامة ولمصلحة المسيحيين تحديداً. فكيف إذا كان المكان الذي نتحدّث عنه هو لبنان الذي وضعه البابا يوحنّا بولس الثاني في مصافّ الرسائل الكبرى التي تعبّر عن ميثاق العيش المشترك في موزاييك مميّز من الانتماءات الطائفية والمذهبية… الجديد في زيارة أمين سرّ الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين هو ما تواتر عن لقائه برئيس تيّار المردة سليمان فرنجية… فهل لمّح له بالانسحاب من السباق الرئاسي؟
تغيّر لبنان كثيراً عمّا يعرفه الصرح البابوي. لبنان الذي أفرد له الفاتيكان “سينودوس” مخصّصاً في استثناء تاريخي، بعدما كان ينظّم سينودوس من أجل قارّة أو قضيّة، لأنّ لبنان بالنسبة إلى الفاتيكان هو “قضية”.
لذلك لا تخلو نقاشات أهل روما من هموم لبنان وأزماته. يبحثون عن سبل معالجتها في محاولة لاستعادة الدور والوجود الذي تمتّع به هذا البلد الصغير المتنوّع في واحة من البلاد الواسعة لكن المصبوغة بلون واحد.
في معلومات “أساس” أنّ بارولين أشاد أمام برّي بقدرة الجيش على حفظ الأمن والاستقرار في ظلّ الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان
عليه كثر الحديث عن مضمون زيارة بارولين لبيروت الأسبوع الماضي. لكنّ أبرز ما يقال عنها لم ينشر بعد. فبارولين تحدّث بلغتين: لغة أمام القادة المسيحيين، ولغة أخرى أمام القادة المسلمين. وما بينهما وضع النقاط على الحروف وعاد بتقرير مفصّل عن المسؤوليّات. وإن لم يقترن ذلك بأيّ اقتراحات أو مبادرات ليطرح حلولاً عملية.
بارولين التقى الجميع… سرّاً وعلناً
على الرغم من أنّ الدعوة خاصّة من جانب “فرسان مالطا”، إلا أنّه قبل وصوله إلى بيروت ناقش المسؤولون في الفاتيكان صوابية هذه الزيارة وجدوى تحويلها إلى زيارة سياسية في ظلّ عقم سياسي لبناني. فانقسمت الآراء بين مؤيّد لها ومعارض. إلا أنّ بارولين ارتأى تلبية الدعوة وجعلها مناسبة للقاءات سياسية ليضع الإصبع على الجرح. فالتقى القيادات المارونية جميعها في السرّ والعلن. حتى تلك التي قاطعت اجتماع بكركي الموسّع، كان بارولين التقاها في السفارة البابوية بعيداً عن الإعلام.
في كلامه مع القيادات المسيحية كان كلام بارولين أكثر دقّة عن خطورة الوضع اللبناني والمسيحي تحديداً. وهناك انطباع سبق أن عبّر عنه الفاتيكان قبل مغادرة الرئيس ميشال عون بعبدا، يوم تحدّث الموفد الفاتيكاني من داخل القصر الجمهوري عن “الخطر الوجودي” على لبنان.
أهمّ اللقاءات بين المسيحيين كانت بين بارولين ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية. في معلومات “أساس” أنّ اللقاء بين الرجلين دام ساعة ونصف ساعة. وكان “جيّداً جدّاً”
فرنجيّة وبارولين.. وثالثهما
لكن يبقى أنّ أهمّ اللقاءات بين المسيحيين كانت بين بارولين ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية. في معلومات “أساس” أنّ اللقاء بين الرجلين دام ساعة ونصف ساعة. وكان “جيّداً جدّاً”.
بلغة هادئة وبدبلوماسية بالغة ناقش الرجلان الاستحقاق الرئاسي. وطرح بارولين أمام فرنجية أنّ “الفاتيكان يقف معك في الرئاسة إذا كانت فرص وصولك متوافرة. أما وقد بات واضحاً أنّ قوى خارجية وداخلية لا تدعم ترشيحك، ما رأيك في الذهاب إلى الخيار الثالث لمصلحة لبنان ولعدم إبقاء موقع الرئاسة شاغراً”.
هذا الكلام ترك انطباعاً لدى فرنجية بأنّ بارولين يطلب منه، من دون أن يقولها بصراحة، الانسحاب من السباق الرئاسي. وفي معلومات “أساس” أنّ فرنجية ناقش بارولين في طلبه هذا. وسأله إذا كان انسحابه سيؤدّي إلى انتخاب رئيس فوراً. فأجابه بارولين بالنفي لأنّ الأزمة بحاجة إلى مزيد من الحلّ. وهنا طلب فرنجية من بارولين أن يتّفق مسؤولو القوى المسيحية على اسم للرئاسة قبل أن يطلب منه أن ينسحب.
هذا الكلام ليس جديداً على فرنجية الذي سبق أن استقبل قبل أشهر السفير البابوي في لبنان. فحينها أيضاً عبّر له الأخير عن أنّ الفاتيكان لا يفرّق بين أبناء كنيسته، لكنّه ينظر إلى الاستحقاق بعين العقل، وتحديداً في معرفة من يستطيع ومن لا يستطيع أن يحصد الدعم الداخلي والدولي للوصول إلى قصر بعبدا.
عاد بارولين أدراجه ولم يحمل معه سوى تقرير مفصّل عن الأزمة اللبنانية التي سبق أن تدخّل فيها الفاتيكان أكثر من مرّة في تاريخ الأزمات الماضية
بارولين لبرّي: الجيش ضمانة
من أكثر اللقاءات أهميّة أيضاً كانت زيارة بارولين لعين التينة حيث التقى رئيس مجلس النواب نبيه بري. وفي المعلومات أنّ بارولين أشاد أمام برّي بقدرة الجيش على حفظ الأمن والاستقرار في ظلّ الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان. وناقش مع الرئيس بري الاستحقاق الرئاسي قائلاً إنّ الحلّ يبدأ من فتح أبواب المجلس النيابي.
كان الرئيس بري متجاوباً، وشرح لبارولين أنّ رئاسة الجمهورية تحتاج إلى حوار لأنّ فتح أبواب المجلس سيعيد تنظيم مشهد مماثل لما جرى في جلسة حزيران من عام 2023. وبالتالي دعا القوى المسيحية إلى أن تتّفق على مرشّح ليحصل على الأكثرية المطلوبة.
إقرأ أيضاً: الحزب وبكركي: قطيعة أم هدنة؟
فما كان من بارولين إلا أن أكّد للرئيس بري أنّ فتح أبواب مجلس النواب هو المفتاح لأيّ توافق مقبل. وسجّل بارولين نقطة بدعمه الحوار من دون الدخول في إشكاليّاته الدستورية لأنّ الفاتيكان لا يدخل في تفاصيل الإشكاليات المحلّية بين القوى.
هكذا عاد بارولين أدراجه ولم يحمل معه سوى تقرير مفصّل عن الأزمة اللبنانية التي سبق أن تدخّل فيها الفاتيكان أكثر من مرّة في تاريخ الأزمات الماضية. وقد ساهمت دبلوماسيّته في وقف الحرب والوصول إلى اتفاق الطائف، واليوم تحاول أن تساهم في منع التصعيد على الحدود في جنوب لبنان، وانتخاب رئيس توافقي “لكي يبقى لبنان”.
لمتابعة الكاتب على X: