حول عقدة أوكرانيا تتشابك خطوط النظام الدولي المتهالك. لم تعد منظومة العالم تعمل، وباتت عاجزة عن حسم الصراعات واجتراح التسويات. وضراوة الحرب في غزة وامتداداتها في جنوب لبنان والبحر الأحمر نموذج من بين نماذج تتفاوت ضراوتها من السودان إلى اليمن مروراً بتايوان ومستقبل الصراع الأميركي مع الصين.
استرجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عالماً قديماً في قواعده بعد مغادرة الاتحاد السوفيتي حقبة الحرب الباردة والدخول في حقبة “انتهاء التاريخ” المزعومة، بحسب الأميركي فرنسيس فوكوياما. أعاد الرجل قراءة كتاب قديم في تاريخ القيصرية وأحلامها الأوراسيّة. فإذا ما تمكّنت أوكرانيا من انتزاع سيادتها واستقلالها عام 1991 بعد زوال الجار السوفيتي الثقيل، فإنّ روسيا بقيت ثقيلة وأطلّ زعيمها يطالب أوكرانيا بالعودة إلى “بيت الطاعة”.
ما كان فجّاً مباشراً من قبل بوتين كانت الصين تُعِدّ له منذ عقود. غادر ماو تسي تونغ الدنيا وغادرت الصين عهد الأيديولوجيات الثورية. قلبت بكين نظرية فوكوياما العدميّة، وبدا أنّ الصين تبدأ تاريخها من جديد. لسان حال الزعيم الصيني شي جين بينغ يؤكّد مسلّمة لم تسقط من خطاب بكين يوماً: تايوان جزء من الصين الموحّدة، سواء بالسلم والتسويات أم بالحرب التي تُعدُّ لها ما استطاعت من قوّة ومكر لفرض السلطة على الجزيرة في البحر.
حول عقدة أوكرانيا تتشابك خطوط النظام الدولي المتهالك. لم تعد منظومة العالم تعمل، وباتت عاجزة عن حسم الصراعات واجتراح التسويات
ارتباط أوكرانيا العضويّ بتايوان
لعقدة أوكرانيا علاقة عضوية بعقدة تايوان. مسار ومآلات الحرب الراهنة التي تشنّها روسيا منذ شباط 2022 سترسم ملامح مسار ومآلات الصراع حول تايوان. والمعادلة حسابية بسيطة: إذا ما انهزمت أوكرانيا فإنّ الخيار العسكري يصبح سابقة يجب اعتمادها لاسترجاع تايوان إلى “حضن الوطن”. وإذا ما خضع الغرب وتخلّى عن أوكرانيا واستسلم لـ “الأمر الواقع” الروسيّ، فإنّ بإمكان الصين إعلان النصر الكامل والمبين في تايوان حتى لو كان تجسيد ذلك مسألة وقت.
يدرك استراتيجيّو أوروبا قبل الولايات المتحدة الأبعاد الكبرى لحرب أوكرانيا. يبدي الغرب مزيداً من واجهات الدعم الذي يكاد يكون مطلقاً لأوكرانيا. تسهل ملاحظة انهيار التحفّظات واحداً تلو الآخر في مسألة دعم كييف منذ بداية الصراع. أدخلت المنظومة الغربية تدريجياً أنواعاً متصاعدة من الأسلحة، وضخّت مليارات من ميزانيّتها لدعم صمود أوكرانيا، وأنهى الكونغرس عناداً وتدلّلاً، وأبرم الرئيس الأميركي جو بايدن اتفاقاً أمنيّاً مع كييف لمدّة عشر سنوات. وما دامت “فيتوات” قد أُزيحت من طريق نوعيّات من الأسلحة كانت ممنوعة على أوكرانيا على مدى شهور المعارك، فما الذي يمنع اختفاء الاعتراض والتحفّظ على اقتراحات فرنسا لنقل قوات غربية إلى ميادين الحرب المباشرة هناك؟
موقف الغرب بالمقابل متقلّب مزاجيّ يخضع لسلطة صناديق الاقتراع وتنافسِ التيارات الحيوية في بلدانه
ثبات الحكم الرّوسيّ… والتّقلّب في الغرب
موقف موسكو يستند إلى نظام سياسيّ روسي بسيط إذا ما قورن بالحالة الغربية. قرار الحرب والموقف منها ومن نهاياتها يصدران عن زعيم البلد الأوحد الذي تُسخَّر له المؤسّسات لانتخابه وإعادة انتخابه من دون أيّ عناد مضادّ. وحتى لو لقي حرَداً من خصم معارض مثل أليكسي نافالني أو من صديق مشاكس مثل يفغيني بريغوجين، فإنّ ذلك يتبدّد بسبب “الأقدار وصدف الدنيا”. وعلى هذا فما على بوتين إلا قليل من الصبر وتأمّل التحوّلات في معسكر الأعداء.
موقف الغرب بالمقابل متقلّب مزاجيّ يخضع لسلطة صناديق الاقتراع وتنافسِ التيارات الحيوية في بلدانه. فواشنطن في عهد صديق بوتين، دونالد ترامب، تختلف في طباعها عمّا كانت عليه في عهد جو بايدن الذي سبق أن وصف الزعيم الروسي بأنّه “قاتل”. ثمّ إنّ ازدهار مواسم أحزاب اليمين المتطرّف والتيارات الشعبوية في فرنسا وألمانيا وهولندا والمجر والنمسا وبلدان أخرى قد يصدّع وحدة أوروبية ضدّ روسيا، خصوصاً أنّ بعض اليسار يحنّ لموسكو حتى لو تحكمها عقائد شوفينية قومية متديّنة بدلاً من حاملي نصوص ماركس وخطب لينين وخلفائه.
سلام سويسريّ.. بلا روسيا!
بات النزال ضرورة في “حدّه الحدُّ بين الجدّ واللعب”. وبات أمر العالم بأجمعه مرتهناً لطبيعة نهاية الحرب الأوكرانية لدرجة التمسّك بها فيصلاً مهما كانت أكلافها. وفق ذلك الميل استضافت سويسرا، السبت والأحد، بناء على طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مؤتمراً “عجيباً” للسلام في أوكرانيا. بدا الحدث تظاهرة دولية أُريد لها أن تكون حاشدة لدعم أوكرانيا وإن كان العنوان والشعار يتحدّثان عن “بناء السلم وإنهاء الحرب”. قيل إنّ وزير خارجية سويسرا جال كثيراً بين العواصم الأساسية، ووجّهت بلاده دعوات إلى بلدان الكوكب، فاستجاب حوالي 90 بلداً بمستويات تمثيلية عالية ومتوسّطة ومنخفضة. غير أنّ تفصيلاً بسيطاً يكشف هراء المسعى وخرائطه السلمويّة: لم تتمّ دعوة روسيا.
تعيد كييف أسباب نكساتها العسكرية الأخيرة إلى تردّد غربي عرقل “سلاسل التوريد” العسكرية باتجاه أوكرانيا
بغضّ النظر عن الديباجات الُمجترحة لتبرير تلك المفارقة والحديث عن مؤتمر آخر قد تستضيفه السعودية وقد تحضره روسيا، فإنّ المناسبة، المفترض أنّها داعية سلم، أثبتت كم أنّ طرفَي الصراع ما زالا بحاجة إلى مزيد من الحرب، والأرجح أكثر ضراوة، قبل عبور البوّابات الأولى نحو سلم وتسوية وصفقات محتملة.
يكفي لذلك تأمّل مشروعَي بوتين وزيلينسكي لوقف الحرب. يقترح الزعيم الروسي استسلاماً أوكرانيّاً تقبل بموجبه كييف الاعتراف بـ”الوقائع على الأرض”، وفق تعبير موسكو، و”انسحاب الجيش الأوكراني الكامل من الأراضي الأوكرانية” التي احتلّتها القوات الروسية وأعلنت موسكو ضمّها إلى السيادة الروسيّة.
بالمقابل فإنّ خطّة الزعيم الأوكراني تمتدّ على 20 نقطة يطالب فيها روسيا بالاعتراف بالهزيمة، وانسحاب قوّاتها إلى ما وراء الحدود، وإخلاء ما احتلّته، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي يعود الاستيلاء عليها إلى عام 2014.
تعيد كييف أسباب نكساتها العسكرية الأخيرة إلى تردّد غربي عرقل “سلاسل التوريد” العسكرية باتجاه أوكرانيا. تعوّل على ما سيصل من أسلحة موعودة، بما في ذلك مقاتلات F-16 الأميركية، لردّ الهجوم الروسي. وتعوّل روسيا بالمقابل على تعب الغرب، واستنزاف ميزانيّاته، وانقسام حكّامه، وصعود واجهات صديقة لموسكو في واشنطن وعواصم حلفائها.
إقرأ أيضاً: أوروبا.. أوطان بلا أجانب وغرباء
ثبت في المؤتمؤ السويسري أنّ أوكرانيا ليست وحدها، لكن ثبت أيضاً أنّ روسيا ليست معزولة. رفضت الصين المشاركة تضامناً مع موسكو، وأعرض عن الحضور كثير من دول الجنوب، ومن حضر منهم اعترض على أيّ صيَغ تنال من روسيا.
عيون العواصم مشدودة صوب مستقبل الحرب في أوكرانيا. فمن خلاصات تلك الحرب قد تظهر تحوّلات نظام دولي أظهرت الحرب في غزّة أفظع أورامه التي باتت مزمنة وخبيثة.
لمتابعة الكاتب على X: