الشراكات والميلشيات ومتغيراتها بين الغرب والعرب

مدة القراءة 7 د

قام النظام الدولي على قيم ومشتركات ومصائر واحدة للعالم. صعود اليمين في أوروبا يبدو خروجاً على هذا النظام. أما في منطقتنا العربية فلدينا قوى منفلتة متمثلة في الميليشيات، وأهمها الآن حماس والحزب والحوثيين… في أوروبا نشهد ظهور ميليشيات منتخَبة. وتتحكّم بمصير منطقتنا ميليشيات منتخبة أيضاً، تسيطر عليها إيران.

نحن إذاً أمام خلطة جديدة من اليمين المتطرّف والميليشيات، ومن الخروج على النظام العالمي، من روسيا والصين، وصولاً إلى إيران وأميركا وإسرائيل…

 

 

عندما اقتنيتُ قبل أيام كتاب ريتشارد واتمور الأخير: “نهاية التنوير، الإمبراطورية والتجارة والأزمة”، كنت أظنّ أنّ هذا المتخصّص البارز في التأريخ لزمن التنوير الأوروبيّ (القرنين السابع عشر والثامن عشر)، يدرس أخيراً الأزمة الحاليّة لفكر التنوير في أوروبا والغرب بعامّة، لكنّني وجدته يعود لمشكلات التنوير في القرنين السالفَي الذكر. والواقع أنّ أفكار التنوير الكبرى مثل الحرّية والعدالة والسلام ووحدة الإنسانية تُواجهُ تحدّياتٍ كبرى منذ زمن فريدريك نيتشه عدوّ التنوير الأوّل في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. بيد أنّ هذه الأزمة أو الأزمات تفاقمت في حقبة الفلاسفة الفرنسيّين الجدد منذ ستّينيات القرن العشرين، وتبلغ الآن إحدى ذُراها في تيّار التابع Subaltern الذي ينشغل بلعن أميركا والغرب بعامّة من جانب مفكّرين عرب وهنود ومن أميركا اللاتينية، وتارةً لأنّ التفكير الاستعماري ما يزال سائداً في الغرب، أو لأنّ قيم التنوير ذاتها كانت كاذبة منذ البداية على الرغم من قيام نظام العالم عليها بعد الحرب العالمية الثانية.

الجانب الآخر من الأزمة يتمثّل في الطوفان الشعبي الحالي بأوروبا ضدّ قيم التنوير والنظام كما ظهر في الانتخابات الأوروبية الأخيرة التي انتصر فيها اليمين المتطرّف في كلّ أنحاء أوروبا باستثناء إسبانيا! وهؤلاء الشعبويون منشغلون بتفكيك الاتّحاد الأوروبي وقضايا الهجرة والخروج من حكومات الوسط واليمين التقليدي، وانكماش كلّ بلدٍ على نفسه. فالمسألة ما عادت مسألة مفكّرين متشكّكين ولا نقّاد مدقّقين يبحثون في ما بعد عالم أميركا أو ما بعد عالم الاتحاد الأوروبي الذي عموداه ألمانيا وفرنسا اللتان تقدَّم فيهما اليمين الراديكالي هذا متجاوزاً كلّ التوقّعات. وهو الأمر الذي دفع مراقبين استراتيجيّين إلى التفكير في ثلاثينيات القرن العشرين حين سيطرت الشعبويّات وجاءت إلى السلطة بالفاشيّين والنازيّين في إيطاليا وألمانيا فاندلعت الحرب العالمية الثانية كما هو معروف.

ما يحدث في أوروبا الليبرالية ويمينها الصاعد، لا علاقة له بالتنافس على النظام، بل هو خروج على كلّ السوائد

“قيم” النّظام الدّوليّ

قام النظام الدولي على قيم ومشتركات ومصائر واحدة للعالم. وحتى الاتحاد السوفيتي ثمّ روسيا الاتّحادية من بعده والصين، وهما البلدان اللذان يفترقان عن الغرب بالتدريج، كانوا مشاركين في هذه القيم وهذا النظام. الآن يعتبر الرئيس الروسي أنّ الغرب خان نظام المشتركات هذا وهدف إلى حصار روسيا بالأطلسي، واستتبع الأميركيون أوروبا في الحملة على روسيا وعلى النظام العالمي. أمّا الصينيون الذين أفادوا في صعودهم من ميزات النظام فهم الآن في حيرةٍ شديدةٍ، سواء لجهة الضغط الاقتصادي عليهم من الأميركيين أو لجهة محاولة ضمّ تايوان ولو عسكرياً وهي محميّةٌ أميركية.

لكن، كما سبق القول، إذا أمكن اعتبار احتجاجات روسيا والصين من قبيل التنافس الحادّ ضمن النظام العالمي، فإنّ ما يحدث في أوروبا الليبرالية ويمينها الصاعد، لا علاقة له بالتنافس على النظام، بل هو خروج على كلّ السوائد. وهكذا تصبح أوروبا كما عرفها العالم في القرن العشرين محاصَرة من خارجها بالروسيّ والصينيّ، ومن دواخلها بالشعبويّات الثائرة.

الآن يأتي هوكستين إلى إسرائيل وبعدها إلى لبنان، فيتجدّد التفكير لدى الأميركيين: ماذا يريد الإيرانيون في مقابل وقف النار؟!

تحدّيان يواجههما العرب

العرب يواجهون في الوضع الحاضر تحدّيَين كبيرين. ذلك أنّ الدول الإسلامية الأخرى (ربّما باستثناء تركيا) حسمت أمرها في الصراع الدولي الكبير لمصلحة أميركا أو لمصلحة الصين… وروسيا. والتحدّيان هما:

– الأوّل محاولة الوقوف في الوسط بين الكبار في الصراع الدولي، وهو أمرٌ صعبٌ لأنّ الأميركيين والصينيين والروس لا يرضون بذلك على الرغم من التظاهر بالعكس.

– نصل إلى التحدّي الثاني، وهو الذي أسمّيه تحدّي تضاؤل المشتركات أو تصدّع جبهة المشتركات. ففي قضايانا الكبرى مثل قضية فلسطين أو قضايا الدول العربية المتأزّمة، ما اعتدنا الاستناد إلى النظام الدولي المتنازَع عليه فقط، بل وإلى التشارك مع الأميركيين والأوروبيين في التصدّي لهذه القضايا. فالمسألة الآن تجاوزت انحياز الغرب لإسرائيل. بل إذا استولى اليمين المتطرّف، ووصل ترامب للسلطة من جديد، فإنّ الغرب الجديد هذا لا يعود معنيّاً بمشكلات الشرق الأوسط، وهذا فضلاً عن العداء للمهاجرين العرب والمسلمين من جانب السادة الجدد. في مسألة الحرب في غزة على سبيل المثال يريد الأميركيون والأوروبيون الآن وقف النار، ويريدون المضيّ نحو الدولة الفلسطينية. وإذا استمرّ اليمين في التقدّم فسينحاز الجدد إلى إسرائيل أو يفقدون الاهتمام بالموضوع كلّه، ويلهوننا بقضية المهاجرين العرب وغيرهم في أوروبا (وبخاصّةٍ فرنسا). نحن محتاجون إلى شريك. وإذا سيطر اليمين وتفكّك الاتحاد الأوروبي أو ضعُف وتغيّر الاهتمام بالوساطة لدى الأميركيين فإنّ المشكلات ستزداد في التفاقُم ومع تراكم المشكلات بدون اهتمامٍ بالحلول فإنّ الأعباء يصعُبُ احتمالُها.

الأوروبيون يضعفون، وقد يزداد الضعف بعد الانتخابات الفرنسية آخر هذا الشهر

أوروبا وغزّة ولبنان: ميليشيات المشهد الأسود

ما أقصده يمكن التمثيل عليه الآن بقضيّتي غزة ولبنان حتى لا نذكر سورية واليمن وليبيا والسودان (!). لدينا قوى منفلتة متمثّلة في الميليشيات، وأهمّها الآن حماس والحزب. وصحيح أنّ اليمين العاتي يحكم في إسرائيل، وهو أهمّ أسباب استمرار الحرب على غزة. لكن من جهةٍ ثانيةٍ ونحن نستصرخ النظام الدولي الغربي الحالي ليست لدينا وسيلة لضبط حماس حتى لو وافق الصهاينة على وقف الحرب. لقد أعلنت إيران أنّها تريد استمرار حرب “المقاومة”. وما نفع في شيء الانضباط العربي في العلاقة مع إيران لا لجهة حماس ولا لجهة الحوثيين ولا لجهة الحزب! لذلك يجتمع علينا الأمران:

– ظهور ميليشيات منتخَبة في أوروبا.

– وميليشيات عندنا (منتخبة أيضاً!) تسيطر عليها إيران.

إقرأ أيضاً: حرب لبنان على بُعد خطأ واحد

عندما أطلق بايدن مبادرته لوقف النار بالاتفاق مع إسرائيل جاء وزير خارجية إيران المؤقّت إلى لبنان ليتحدّث إلى السيّد نصر الله.. وإلى حماس، بشأن استمرار الحرب.. والآن يأتي هوكستين إلى إسرائيل وبعدها إلى لبنان، فيتجدّد التفكير لدى الأميركيين: ماذا يريد الإيرانيون في مقابل وقف النار؟!

الأوروبيون يضعفون، وقد يزداد الضعف بعد الانتخابات الفرنسية آخر هذا الشهر. والأميركيون المبادرون عندهم انتخابات رئاسية، وهم في هذه الحالة محدودو القدرات والخيارات. هذا مشهدٌ أسود، والأمل أن لا تتحقّق كلّ الجوانب السلبية البادية في الأفق. والأمل الذي لا شفاء منه أيضاً هو توقّف القتل، وحلول شيء من الاستقرار لكي يبقى الناس في أرضهم ولا يموت أطفالهم. بيد أنّ الحسابات الكبرى تبقى مخيفة.

لمتابعة الكاتب على X:

@RidwanAlsayyid

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…