عندما وافق مجلس صيانة الدستور عام 1997 على أهليّة السيّد محمد خاتمي للمشاركة في السباق الانتخابي، كان النظام أو الدولة العميقة، التي كانت في المراحل الأولى من تشكّلها، قد أعدّت عُدّتها للسيطرة على موقعَيْ رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، وبداية التأسيس لمرحلة جديدة في إدارة البلاد بناءً على رؤيتها لتعميق وتكريس إسلاميّة الدولة والسلطة، فدفعت بمرشّحها الشيخ علي أكبر ناطق نوري رئيس السلطة التشريعية (البرلمان) حينها ليكون رأس هجوم لهذا المشروع.
في تلك الانتخابات، كان الطموح الأكبر للقوى الإصلاحية، أو اليسار الإسلامي، أن يشارك في هذه الانتخابات، ليس من أجل الفوز، بل بهدف تحديد وزنه الاجتماعي من أجل تشكيل تيار سياسي بقيادة خاتمي في مواجهة مشروع السلطة. وسيطر حينها شعار “اكتب خاتمي وسيقرأونه نوري”، بناءً على قناعة سياسية وشعبية بأنّ النظام قادر على التحكّم بمسار النتائج وهندستها لمصلحة مرشّحه.
صدمة خاتمي
الصدمة التي أحدثتها نتائج الانتخابات كانت خارج توقّعات تيار اليسار الإسلامي وتوقّعات النظام أيضاً. فخاتمي الذي صُدم بقبول ترشّحه بداية، صُدم أيضاً بحجم وكمّ الأصوات التي حصل عليها، وكانت كبيرة بحيث صدمت النظام الذي بدا عاجزاً عن التحكّم بمخرجاتها، وسقط في يده، وهو ما أجبره على الاعتراف بها، والانتقال إلى خطة بديلة تقوم على استيعاب هذا المتغيّر والعمل على تفريغه من أهدافه وإفشال مشروعه وإسقاطه شعبياً.
فخاتمي الذي صُدم بقبول ترشّحه بداية، صُدم أيضاً بحجم وكمّ الأصوات التي حصل عليها
تكرّرت تجربة النظام مع خاتمي بناء على معطيات مختلفة في انتخابات عام 2013 مع حسن روحاني. الفارق الأساس بين انتخابات 1997 مع خاتمي وانتخابات 2013 مع روحاني أنّ الأولى (خاتمي) جاءت بعد رئاسة الشيخ هاشمي رفسنجاني وما حقّقته من تنمية اجتماعية واقتصادية وسياسية نسبية، وكانت بمنزلة استمرار لهذه المرحلة. في حين أنّ الثانية (روحاني) جاءت بعد مرحلة من التخبّط والتراجع السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي وتصاعد الحركات الاعتراضية التي سيطرت وميّزت عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد على الرغم من الدعم الكبير الذي حصل عليه من مراكز القرار في الدولة العميقة ووقوف المرشد الأعلى السيد علي خامنئي إلى جانبه بكلّ وضوح وصلابة، في إطار مشروعه لاستعادة مراكز القرار وتوحيدها في قبضته للانتقال إلى تطبيق رؤيته في الحكم الإسلامي.
على الرغم من الانتكاسات التي أصابت مشروع النظام ومنظومة السلطة في التأسيس لمفهومه في الحكم، إلا أنّه لم يتخلَّ عن هذين الطموح والمشروع، فحاول استعادة المبادرة عام 2017 من خلال الزجّ بأبرز مرشّحيه وأوراقه الرئاسية في مواجهة روحاني، عندما رشّح إبراهيم رئيسي بهدف استثمار الإنجاز السياسي والاقتصادي الذي حقّقه روحاني بتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، ليكون أساساً ومنطلقاً لتحسين صورته لدى القواعد الشعبية والتأكيد أنّ القوى المحافظة الموالية للنظام التي تدار من الدولة العميقة هي الأقدر على تلبية المطالب الشعبية على المستوى الاقتصادي والمعيشي من ناحية، والأقدر على إدارة ملفّ السياسة الخارجية والانفتاح على القوى الكبرى والمجتمع الدولي من ناحية أخرى.
تكرّرت تجربة النظام مع خاتمي بناء على معطيات مختلفة في انتخابات عام 2013 مع حسن روحاني
رئيسي وطموحات النّظام
لم يكن وصول إبراهيم رئيسي إلى قيادة السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية خلفاً لروحاني على قدر آمال وطموحات النظام، فقد أبدى ضعفاً واضحاً في إدارة الملفّ الداخلي الضاغط على النظام، خاصة في الجانب الاقتصادي، على الرغم من جهود المرشد وفريقه في تحمّل عبء تعقيدات ملفّ العلاقات الخارجية وسياساتها عنه.
يبدو في هذه الانتخابات الرئاسية المبكرة أنّ دوائر السلطة قد ارتكبت خطأً في التقدير عندما وافقت أو مرّرت أهلية مسعود بزشكيان، أحد مرشّحي الجبهة الإصلاحية الثلاثة، الذي سرعان ما تحوّل إلى مرشّح لكلّ القوى الاعتراضية التي تشمل مروحتها التيار الاعتدالي وحتى جماعات داخل القوى المحافظة، خاصة أنّ هذا القرار أعاد إلى أذهان القوى المحافظة والموالية للنظام التجارب التي خاضوها مع ترشّح خاتمي وروحاني على حد سواء، وأنّ أيّ خرق، مهما كان حجمه، سيعرقل بشكل كبير وواضح مسار توحيد السلطة وإلغاء وجود أيّ قوى من خارج التيار المحافظ في الحياة السياسية والمشهد الإيراني.
أمام الخوف من تشتّت أصوات قواعد المحافظين الشعبية، فإنّ رهانات هذه القوى تبقى على نسبة المشاركة الشعبية
إعادة تشغيل بعض أقطاب التيار المحافظ لمحرّكاتهم من أجل العمل والسعي إلى التوصّل إلى نوع من الوحدة داخل قوى هذا التيار، والحديث عن ضرورة التوصّل إلى نوع من وحدة الصفّ، لم تكن مطروحة قبل إحساسهم بحجم التحدّي الذي قد تشكّله حالة الوحدة والانسجام التي بدأت تتبلور داخل القوى الاعتراضية بكلّ أطيافها، وبأنّ التحدي قد دخل مرحلة جدّية بعد تسارع المواقف الداعمة لمرشّح الجبهة الإصلاحية، خاصة الرئيس خاتمي الذي ما زال يملك مساحة جيّدة من التأثير على الرأي العام الإيراني والشريحة الرمادية من المقترعين.
يبدو أنّ أزمة القوى المحافظة قد تزداد مع اقتراب موعد الانتخابات في 28 الشهر الجاري، والإحساس بخطأ استبعاد وإسقاط أهلية مرشّح الجناح المعتدل في المحافظين علي لاريجاني، الذي يملك قدرة على استقطاب شريحة من الجماعات المعتدلة القريبة من التيار الإصلاحي، خاصة الشريحة التي مازالت تتأثّر بتوجّهات وتوجيهات الرئيس السابق حسن روحاني، بالإضافة إلى جزء من الأصوات الرمادية.
في مقابل رهانات الإصلاحيين وقوى الاعتدال على إمكانية تحفيز القاعدة الشعبية التي شاركت في انتخاب روحاني عام 2017 بالحدّ الأدنى، خاصة بعدما نجحت الجبهة الإصلاحية بالحصول على التزام من الجناح المعتدل ومن حزب كوادر البناء الذي يمثّل توجّهات الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني بتأييد ودعم مرشّحها، والتي قد تصل إلى نحو 20 مليون مقترع، فإنّ إمكانية مثل هذه الرهانات داخل التيار المحافظ تبدو أكثر تعقيداً وصعوبة، نتيجة الهندسة التي خرج بها مجلس صيانة الدستور لأسماء مرشّحي المرحلة الأخيرة من السباق الرئاسي.
أيّ رئيس جديد سيدخل مكتب رئاسة الجمهورية يدرك تماماً أنّ مقاليد السياسات الاستراتيجية الداخلية والخارجية هي من صلاحيات المرشد الأعلى
معركة كسر عظم
وجود خمسة مرشّحين للتيار المحافظ مقابل مرشّح واحد للقوى الإصلاحية والمعتدلة، وما يملكه من قدرة على مخاطبة الشريحة الرمادية، يعني أنّ التنافس بين المرشّحين المحافظين سيشهد معركة “كسر عظم” من أجل الحصول على أصوات قاعدة شعبية محدّدة لا تتجاوز عشرين في المئة من الشعب الإيراني، يمكن تقديرها بنحو 20 مليوناً من ضمنها 17 مليون صوت حصل عليها رئيسي في الانتخابات الأخيرة.
أمام الخوف من تشتّت أصوات قواعد المحافظين الشعبية، فإنّ رهانات هذه القوى تبقى على نسبة المشاركة الشعبية، وقد يكون الوصول إلى هذا الهدف يمرّ من خلال استثارة هذه القواعد ودفعها لعدم المشاركة، من أجل تقليل نسبتها، وحتى الذهاب إلى دورة اقتراع ثانية ترفع من حظوظهم وتبعد خطر الخسارة عنهم. وذلك انطلاقاً من قاعدة ذهبية لديهم تقول إنّ تراجع المشاركة الشعبية يصبّ في مصلحتهم ومصلحة أيّ مرشّح لهم، في حين أنّ ارتفاع نسبة المشاركة وتجاوزها نسبة 60 في المئة يعني إمكانية تحقيق المعارضة خرقاً حقيقياً قد يحسم النتائج من الدورة الأولى لمصلحتها.
إقرأ أيضاً: معادلة الاغتيالات بدل توسيع الحرب تقوّض خطّة بايدن؟
وسط هذه الاحتمالات، يبقى السؤال عن مستقبل العلاقة بين الرئيس الجديد والمرشد الأعلى في حال استطاع الإصلاحيون الخرق. إن حصل مثل هذا التحوّل، لن يكون لدى المرشد صعوبة في إدارة هذه العلاقة حتى لو كانت على تعارض مع رغبته الشخصية أو رغبة منظومة السلطة. وإنّ التعامل معها انطلاقاً من الاعتراف بالأمر الواقع وإرادة المقترعين لن يختلف عن تعامله مع رئاسة خاتمي وروحاني، خاصة أنّ أيّ رئيس جديد سيدخل مكتب رئاسة الجمهورية يدرك تماماً أنّ مقاليد السياسات الاستراتيجية الداخلية والخارجية هي من صلاحيات المرشد الأعلى ولن يكون قادراً على الخروج منها أو عليها. وسيكون المرشد أكثر ديناميكية في التعامل مع هذا المستجدّ على العكس من التيار المحافظ الذي إذا ما خسر في هذا السباق سيكون أمام مأزق إعادة النظر في كلّ المفاهيم التي قامت عليها أطروحته للسلطة، أو على الأقلّ الدخول في تقويم حقيقي وجدّي للأساليب التي اعتمدها في التعامل مع القواعد الشعبية التي مازالت ضرورية لتمرير أهدافه ما دام لم ينتقل كحكومة إسلامية إلى نمط جديد في السلطة لا حاجة فيه إلى صندوق الاقتراع.