بينما يقاتل الرئيس جو بايدن من أجل إعادة انتخابه في تشرين الثاني المقبل في ساحة معركة مثيرة للجدل بين الولايات الأميركية، ينخرط البيت الأبيض، كما يرى توم أوكونور في مجلّة “نيوزويك”، هو أيضاً في منافسة حامية على النفوذ على المسرح العالمي مع العديد من اللاعبين المهمّين بشكل متزايد. وبينهم شريك طويل الأمد يشهد “تغييرات رائدة” في سياساته الداخلية والخارجية، وهو السعودية، التي باتت بقيادة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان القوّة الدافعة وراء الأجندة القومية التي تترسّخ في المملكة، وتستخدم نفوذها الجيوسياسي المتنامي لخدمة مصالح الرياض في التعامل مع كلّ من القوى الكبرى والقوى الناشئة.
في رأي توم أوكونور، كبير محلّلي السياسة الخارجية في مجلة “نيوزويك”، فقد “أدّى التحوّل الذي أشرف عليه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى تحوّلات كبيرة في النظرة الداخلية للمملكة. التي تبنّت طابعاً أكثر عولمة وانتقلت بعيداً عن الاعتماد على النفط، من بين مبادرات أخرى تتماشى مع الشباب وتؤدّي إلى إعادة التوازن في العلاقات الخارجية والبحث عن علاقات أقوى مع القوى الكبرى الأخرى. بما في ذلك أكبر منافسي الولايات المتحدة الصين وروسيا”.
في مقابلة مع أوكونور حدّد علي الشهابي، الخبير السياسي السعودي الذي أسّس “مركز أبحاث المؤسسة العربية” ويعمل الآن في “المجلس الاستشاري لنيوم”، أحد “المشاريع العملاقة” المستقبلية العديدة الموضّحة في رؤية 2030، عاملين أساسيَّين وراء مسعى المملكة لتحقيق التوازن في العلاقات الدولية:
– الأوّل هو الأهمّية المتزايدة للصين باعتبارها أكبر مستورد منفرد للنفط السعودي وشريكاً مستعدّاً لتزويد السعودية بالأسلحة والتكنولوجيا دون أيّ شروط.
– الثاني هو عدم الثقة بالعلاقات مع الولايات المتحدة. لأنّها يمكن أن تتقلّب بشكل كبير اعتماداً على تبدّل التيارات السياسية في العاصمة.
في رأي توم أوكونور فقد أدّى التحوّل الذي أشرف عليه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى تحوّلات كبيرة في النظرة الداخلية للمملكة
عالم جديد متعدّد الأقطاب
يؤكّد أوكونور أنّ “الرياض تتمتّع بوضع فريد يسمح لها بمتابعة هذا المسار نظراً لمكانتها المؤثّرة بالفعل كعضو رائد في منظمة أوبك وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. فضلاً عن كونها واحداً من أسرع الاقتصادات نموّاً في مجموعة العشرين، لكنّها ليست وحدها على هذا الطريق. تشمل الدول التي تتبنّى أدواراً مماثلة البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وتركيا، وجميعها سعت إلى توسيع وتنويع محافظها الدولية في الشرق والغرب على حدّ سواء. وتشكّل معاً ما أشار إليه الخبراء في مؤسّسة صندوق مارشال الألماني بـ “الدول العالمية المتأرجحة”.
“كما هو الحال بالنسبة للعديد من القوى المتوسّطة/الدول المتأرجحة في الجنوب العالمي، فإنّ التعدّدية هي الاستجابة المنطقية للسعودية لنظام عالمي متعدّد الأقطاب أكثر تقلّباً وتعقيداً”، وفقاً لكريستينا كوش، نائبة المدير العام لصندوق مارشال الألماني في الجنوب (GMF South). التي قامت بتأليف تقرير حول مكانة المملكة بين هذه القوى الصاعدة. تقول كوش إنّه “ليس زواجاً، بل مجموعة مرنة متقلّبة من العلاقات التي تسمح للرياض بالحماية من عدم الاستقرار الدولي والاستفادة من نقاط قوّتها وأصولها لتحقيق أقصى استفادة. فهذه الاستراتيجية ضرورية بشكل خاص للمملكة لأنّ التكيّف واستدامة نموذج أعمالها الجيوقتصادي يعتمدان على علاقاتها الجيّدة مع الولايات المتحدة والصين وروسيا على حدّ سواء”.
الريض شريكة: واشنطن وبكين
اليوم، تظلّ واشنطن الشريك الأمنيّ الرئيسي للرياض، لكنّ بكين أصبحت شريكها التجاري الرئيسي وعميل الطاقة، والعلاقات القويّة مع موسكو هي المفتاح لإدارة إنتاج الطاقة العالمية والتسعير من خلال “أوبك بلاس”.
أوكونور: الرياض تتمتّع بوضع فريد يسمح لها بمتابعة هذا المسار نظراً لمكانتها المؤثّرة بالفعل كعضو رائد في منظمة أوبك وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي
وفقاً لكوش، فإنّ “النتيجة هي موقف من الغموض الدائم يؤدّي بطبيعة الحال إلى احتكاك مع الحكومة الأميركية، التي ترغب في رؤية الرياض في وضع أكثر ثباتاً في معسكرها الجيوسياسي”. وإذ تشير كوش إلى تقدّم في المفاوضات الجارية حول إبرام اتفاق أمني وسياسي بين البلدين، قد يؤدّي إلى ضمانات أمنيّة أميركية ويوفّر فوائد قيّمة لكلا الجانبين، تؤكّد أنّ هناك ضرورة لـ”تعديل النهج الأميركي التقليدي، بمعنى أنّه سيتعيّن على واشنطن أن تفهم أنّ نهج الرياض في التعامل مع الأمر يتعلّق بالسياسة الخارجية، وأنّ التحالف أكثر ارتباطاً بالمعاملات، ولن يتماشى افتراضياً مع تفضيلات الولايات المتحدة، حيث إنّ النهج التقييدي الأميركي تجاه الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، ورؤية المنطقة في المقام الأوّل من خلال عدسة المنافسة مع الصين وروسيا أثناء مواجهة إيران، لم يفضيا إلى هذا التفاهم”.
كما يلاحظ برنارد هيكل، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون، التعديل الاستراتيجي في وجهة نظر الرياض. ويقول هيكل لأوكونور: “تدرك السعودية أنّ العالم لم يعد أحاديّ القطب تهيمن فيه الولايات المتحدة فقط على كلّ شيء، وأنّه يجب التحرّك نحو عالم متعدّد الأقطاب مع قوى صاعدة أخرى مثل الصين والهند، والحفاظ على العلاقات مع أكبر عدد ممكن من الدول، خاصة القوى الصاعدة التي تعدّ من كبار عملائها في مجال النفط والبتروكيماويات”.
السّعوديّة أوّلاً
يذكر أوكونور أنّ هيكل الذي يحافظ على اتصالات مباشرة مع وليّ العهد السعودي، يصف النهج الذي يتبعه بأنّه سياسة “السعودية أوّلاً”، مستحضراً مبدأ “أميركا أوّلاً” الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمن والذي أعاد ترامب تنشيطه أخيراً.
لكنّ الفرق الكبير، بحسب هيكل، هو أنّ المملكة تعمل بشكل أكبر مع الأخذ في الاعتبار القومية، وليس أيّ أيديولوجية أخرى. وتضع مصلحتها الذاتية قبل المصالح الإقليمية، أو، على سبيل المثال، المصالح القومية العربية والإسلامية. تلك التي كانت تشكّل عوامل مهمّة في وقت سابق، فضلاً عن المصالح الأميركية. ولأنّها تحاول تنويع اقتصادها لتصبح أقلّ اعتماداً على عائدات النفط، فإنّها تختار سياسات الحفاظ على علاقات ممتازة مع الصين وأميركا في وقت واحد.
يقول هيكل لأوكونور: “تدرك السعودية أنّ العالم لم يعد أحاديّ القطب تهيمن فيه الولايات المتحدة فقط على كلّ شيء
أوكونور حاور أيضاً المتحدّث باسم السفارة السعودية في الولايات المتحدة فهد ناظر، الذي اعتبر أنّ “المملكة العربية السعودية تتمتّع بعلاقات ممتازة مع الغالبية العظمى من الدول في جميع أنحاء العالم”، و”تعتقد أنّها في وضع فريد لحلّ الخلافات بين شمال وجنوب العالم وشرقه وغربه.” ويضيف: “في حين أنّ لديها كلّ الأسباب لتنمية علاقاتها الجديدة مع مختلف البلدان، بناءً على مصالحها الاقتصادية في سياق رؤية 2030، فإنّ علاقتها مع الولايات المتحدة لم تستمرّ لمدّة ثمانية عقود فحسب، بل تعمّقت أيضاً وتوسّعت لتشمل أحدث التقنيات ومرونة سلسلة التوريد واستكشاف الفضاء اليوم”.
ينقل أوكونور عن الباحث السعودي عبد العزيز الخميس اقتراح حلّ يعتقد أنّه يسمح لإدارة بايدن بتحسين علاقتها الصعبة مع الرياض. حلّ يتطلّب “تعزيز الحوار الدبلوماسي، وتقليل النقد العام، ومراعاة الاختلافات الجيوسياسية والمصالح المتنافسة، وتقديم تنازلات متبادلة بشأن القضايا الاقتصادية والأمنيّة”. ويحذّر من أنّه إذا فشلت الولايات المتحدة في تحقيق الاستقرار في علاقتها مع المملكة، فقد ينشأ العديد من المخاطر، بما في ذلك إضعاف النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وتعزيز نفوذ المنافسين مثل الصين وروسيا التي تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع المملكة، فضلاً عن وضع “قد يؤثّر سلباً على استقرار أسواق الطاقة العالمية”.
ضرورة فهم “اعتدال” السعودية “و”نضجها”
حتى الجهد الناجح الذي تبذله إدارة بايدن قد لا يكون كافياً للتأثير على التحوّل السعودي العميق نحو احتضان علاقات خارجية جديدة قد تتعارض مع المصالح الأميركية. بالنسبة لخميس هناك فوائد عدّة لإقامة تعاون أقوى مع القوى الأخرى تشمل “تنويع التحالفات، وهو ما يعزّز مكانة المملكة على الساحة الدولية ويقلّل اعتمادها على دولة واحدة، وتنويع الشركاء التجاريين والاستثماريين الذي يعزّز الاقتصاد السعودي والأمن القومي من خلال إقامة علاقات قويّة مع العديد من القوى الكبرى، الأمر الذي يساهم في تحقيق توازن القوى الإقليمي”.
إقرأ أيضاً: جون بولتون: بايدن “الإيراني”… يهدّد أمن أميركا
من جهته، فإنّ محمد الحامد، المحلّل الجيوسياسي السعودي ورئيس “شركة النخبة السعودية الاستشارية”، يدعو الولايات المتحدة إلى أن تقبل وضع الدولة المتأرجحة للسعودية لتحقيق الاستقرار وتطوير علاقاتها. ويرى أنّ “هناك فرصة حقيقية لتحقيق التوازن في العلاقات السعودية الأميركية، وتحديداً مع الحزب الديمقراطي وإدارة بايدن، من خلال إصلاح الضرر الناجم عن محاولات تشويه العلاقات مع حليف أمنيّ مهمّ للولايات المتحدة” .وهذه المحاولات، بحسب الحامد، “تفشل دائماً لسبب بسيط للغاية، وهو أنّ المملكة تمرّ بمرحلة تطوّر اقتصادي وثقافي وفنّي وعلمي وسياسي هائل، وأنّ القيادة السعودية تجاه العالم العربي والشرق الأوسط والعالم الإسلامي وصلت إلى مرحلة من النضج باعتدال. وسيكون تحقيق اختراق حاسماً في وقت قد تكون لدى الرياض القدرة على إحداث تغيير حقيقي خلال فترة من عدم الاستقرار الكبير في جميع أنحاء الشرق الأوسط بسبب الحرب في غزة”.
في رأي الحامد أنّ “ثقل المملكة في المجالات الاقتصادية والجيوسياسية يحتّم على الولايات المتحدة مراعاة المصالح السعودية في المفاوضات، وأنّه نظراً للأهمية الاستراتيجية للسعودية قد تحتاج الولايات المتحدة إلى موازنة أجندة أيديولوجيّتها الإدارية مع الفوائد الأوسع المتمثّلة في الحفاظ على علاقة قويّة مع الرياض. وإذا أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط، فعليها ضمان التعاون بشأن المصالح المشتركة مثل الاستقرار الإقليمي وجهود مكافحة الإرهاب والأمن وأمن الطاقة”.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا