جنين الخيمة التي صارت خندقاً

مدة القراءة 6 د

اسمها جنين ..

بضعة آلاف من الصامدين

بضعة آلاف من الصامتين

بضعة آلاف من الحالمين

بقصّة اسمها فلسطين

اسمها جنين ..

حكاية الخيمة التي أصبحت خندقا

حكاية الأطفال الذين أصبحوا فيلقا

حكاية الصبح الذي من جنين أشرق

 

حكاية الرصاصات الأولى

هذه أبيات يتداولها أبناء جنين التي ترفض أن تفصل غزة عنها أو تنفصل هي عنها. لا تقبل أن تذبح رفح وجباليا وهي غارقة في الصمت. هنا أرض الفلسطينيين واللاجئين، وهناك أرض الفلسطينيين واللاجئين. أرض المخيّم الذي احتضن جسد شيرين أبو عاقلة وآلاف الشهداء لا تعرف إلّا المقاومة سبيلاً. المخيّم الصغير صار “دولة” النضال الفلسطيني. كلّما ينهض تنهض معه كلّ الضفّة والمخيّمات. لم يستسلم للاجتياحات المتكرّرة ولا جنازير الدبّابات. ينهض دائماً من جديد وأقوى ممّا كان. هو مصنع لكتائب المقاومة العابرة للتنظيمات والفصائل، ومدرسة النضال للفتيان الذين وُعدوا بالسلام والازدهار ولم يجدوا سوى أرض يبتلعها الاستيطان والطرق الالتفافية ودرب وحيد يقود إلى الشهادة أو زنازين المحتلّ.

مخيّم جنين صار بتاريخه الطويل رمزاً حقيقياً لمقاومة فلسطينية مثابرة لا تكلّ ولا تستجدي ولا تستعطي أحداً. مقاومة تأخذ على عاتقها الدفاع عن الرمق الأخير من الوجود الفلسطيني والكرامة.

لجنين، قبل وجود المخيّم، إرثٌ تاريخي يمتدّ على مدى مئات السنوات. عام 1799، أحرق سكان المدينة الواقعة عند سفح تلال جبل النار بساتين زيتونهم لوقف زحف القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت نحو المدينة. ولمّا دخلها أمر الإمبراطور بحرقها ونهبها.

مخيّم جنين صار بتاريخه الطويل رمزاً حقيقياً لمقاومة فلسطينية مثابرة لا تكلّ ولا تستجدي ولا تستعطي أحداً

أوّل مقاومة مسلّحة تمّ تنظيمها ضدّ الاحتلال الإنكليزي لفلسطين كانت في جنين. عام 1935، وجد الشيخ عزّ الدين القسام في المدينة حاضنة شعبية من الفلاحين المؤمنين بالثورة ضدّ الإنكليز. واتّخذ قاعدته الأخيرة في أحراج “يعبد” بمحاذاة الموقع الحالي للمخيّم. سريعاً تخلّصت المدينة من الاحتلال الإسرائيلي القصير الذي طالها في نكبة 1948، قبل أن يؤول حكمها إلى الإدارة الأردنية عام 1949.

مخيّمها أُنشئ عام 1953 ضمن حدود بلديّة جنين. وبُني فوق أراضٍ استأجرتها وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم “الأونروا” من الحكومة الأردنية. مساحته لا تتعدّى نصف كيلومتر مربّع فقط ويسكنه نحو 27 ألفاً ينحدرون من منطقة الكرمل في حيفا وجبال الكرمل. ومن أرض المخيّم المقام على سفح يمكن للّاجئين رؤية ديارهم التي أُجبروا على تركها.

احتضن المخيّم المقاومة في السبعينيات والثمانينيات. وشارك في تشكيل المجموعات الأولى التي أطلقت انتفاضة 1987. إعلان السلطة الفلسطينية لم يمنعه من مواجهة الظلم الذي زادت إسرائيل من وتيرته. وكان يعاقَب مراراً وتكراراً بالاقتحامات والاغتيالات والمجازر المتكرّرة. وخلال الاجتياحات عمل جيش الاحتلال على إعادة تشكيل المخيّم بواسطة التدمير، باعتبار أنّ تشابكه العمراني يعيق الاقتحامات، ويخلق مساحة من التفاعل السياسي والاجتماعي. هذه تشكّل عناصر تهديد للاحتلال، فراح يدمّر مئات المنازل تدميراً كاملاً. لكنّ كلّ ذلك لم يقضِ على روح المقاومة ولا على الحركة الثقافية والسياسية فيه، بل زادها ونمّاها. ففي المخيّم مراكز ثقافية ومسارح وكتّاب وشعراء يصل إنتاجهم إلى كلّ العالم.

تخشى إسرائيل في لحظة غفلة أخرى أن يتكرّر في جنين ما حدث في “طوفان الأقصى” في القطاع

هذه الرقعة الصغيرة من الأرض، سمّتها إسرائيل “عشّ الدبابير”، وصارت بالنسبة إليها إشكالية عصيّة على الحلّ، ولا تريد للمخيّم أن يتحوّل إلى حالة عامّة في فلسطين. أكثر من خمسين هجوماً عليه والمخيّم لم يرفع الأعلام البيض. لا بل ازداد صلابة وتماسكاً. وحدة الفصائل في المخيّم حيّرت الإسرائيليين، ووصل الأمر بقائد لواء غولاني يائير فلاي إلى القول إنّ منتسبي هذه الفصائل “ينتمون إلى المخيّم فحسب”. كلّ ذلك جعل المخيّم من أولويات الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية لإفراغه من حالته النشطة المستمرّة التي تُبقي الاحتلال في قلق من تعميمها على باقي المخيّمات والمناطق الفلسطينية.

جنين لا تميّز بين أحد

ميزة المقاومة في جنين أنّها لا تميّز بين محترفين ويافعين، ولا تميّز بين فتحاويّ وحمساويّ أو جهاديّ. صارت جزءاً من مقاومة شعبية شاملة. هذه الروح غذّاها صلف الاحتلال ورفضه الاعتراف بحقّ فلسطين بدولة، وبشاعة الاستيطان وتوسّعه وبؤس سياسة التفاوض. الإصرار الإسرائيلي على القتل العشوائي للفلسطينيين وعدم التمييز بين مدني ومسلّح، بين مسنّ وامرأة، بين طالب وعامل، بين شابّ وشابّة، جعل أبناء المخيّم والمدينة يدركون أنّ الحلّ يكون في الاعتماد على النفس وتنظيم النفس ومقاومة الاحتلال، وليس انتظار مساعدة الآخرين. شباب جنين لم ينتظروا توسيع منظمة التحرير لتضمّ كلّ الفصائل، ولا اجتماعاً لقادة الفصائل والأمناء العامّين لإقرار الوحدة، ولا قراراً ينهي التنسيق الأمنيّ، ولا تصحيح الأخطاء السياسية المتراكمة. قرّروا منفردين وحدتهم والاجتماع في كتيبة واحدة للدفاع عن المخيّم والمدينة اسمها “كتيبة جنين”. يسجّل لمقاتلي “فتح” و”حماس” و”الجهاد” داخل المخيّم من الجيل الجديد أنّهم استطاعوا خلال العامين الأخيرين الانصهار في بوتقة عمل مشتركة، وكرّروا عبارة “نحن في المخيّم موحّدون”، الأمر الذي يشكّل حالة إلهام لشباب المخيّمات الأخرى. ولأنّ هؤلاء يدركون استحالة وصول الدعم من الخارج عبر الحدود المغلقة بأسوار الحديد والحواجز، ابتدعوا وسائلهم الخاصة للمقاومة والاستمرار والبقاء. وكلّما سقط منهم جيل من المقاتلين ظهر جيل شابّ أكثر عزماً وتصميماً وجرأة ومهارة والتزاماً بالقضية.

تخشى إسرائيل في لحظة غفلة أخرى أن يتكرّر في جنين ما حدث في “طوفان الأقصى” في القطاع

تخشى إسرائيل في لحظة غفلة أخرى أن يتكرّر في جنين ما حدث في “طوفان الأقصى” في القطاع. المدينة محاطة بالمستوطنات. تتحسّب أن تلقى مستوطنات “سانور” و”غانيم” و”كاديم” مصير مستوطنات “كيسوفيم” و”نحال عوز” و”زيكيم” و”سديروت” في غلاف غزة. وهي أيضاً تبعد أقلّ من 15 كيلومتراً عن كلّ من حيفا وعتليت وناتانيا، كبريات المدن الإسرائيلية.

عقب أخيل الإسرائيلي هو الضفة الغربية، وفي القلب منها جنين والخليل ونابلس. أكثر ما يقلق المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيلية هو انفجار غضب الضفة في وجهها في ذروة حربها المتواصلة على غزة. فعلت وتفعل كلّ شيء لتقطيع أوصالها، لتفتيتها، لسحق أنفاسها وإرادة سكّانها، لكبح روح المقاومة فيها. تعرف تماماً أنّ جذوة التمرّد في جنين إذا ما انطلقت يسهل تمدّدها إلى مخيّمات طوباس وشعفاط والأمعري والجلزون وبلاطة في باقي الضفة كما حصل في الانتفاضتين الأولى والثانية، لتفجّر انتفاضة ثالثة أشدّ خطورة من سابقتَيها، ومن شأنها إعادة رسم المشهد الفلسطيني من جديد. في المقابل، تدرك جنين والمخيّمات الأخرى أنّ الضفة ستكون الهدف التالي بعد القطاع، وأنّها أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض في غزة. لذا لا يمكن أن تكون بعيدة عمّا يجري في جزء عزيز من أرض فلسطين.

إقرأ أيضاً: المنطقة بين أكتوبر الأوّل وأكتوبر الأخير

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…