استطلاع: انتفاضة الجامعات الأميركيّة لا تضرّ بايدن

مدة القراءة 8 د

انتفاضة طلاب الجامعات الأميركية الرائدة احتجاجاً على المذبحة في قطاع غزة، الجارية حتى اللحظة بتمويل أميركي وسلاح أميركي، لم يشارك فيها سوى نسبة ضئيلة من مجمل الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة. لذا انتفاضتهم غير المسبوقة، في التاريخ الأميركي، نصرة لسكّان بلد آخر تحت احتلال قوات أخرى غير القوات الأميركية، قد لا تؤثّر سلباً، بقدر ما كان متوقّعاً، في حظوظ الرئيس جو بايدن في حملته الانتخابية لتجديد ولايته أربع سنوات أخرى. وذلك استناداً إلى استطلاع حديث أجراه مركز Generation Lab، وهو متخصّص بدراسة ميول واتّجاهات الشباب في الولايات المتحدة، ونشره موقع أكسيوس في مقال تحت عنوان: “معظم طلاب الجامعات لا يبالون بالاحتجاجات على مستوى البلاد”.

 

 

“معظم طلاب الجامعات لا يبالون بالاحتجاجات على مستوى البلاد”. هذا هو الاستنتاج الإجمالي، الذي يهمّ الجانب السياسي الانتخابي للحزب الديمقراطي الذي يخوض صراعاً مريراً لمنع المرشّح الجمهوري دونالد ترامب من العودة إلى سدّة الرئاسة. لكنّ القراءة التفصيلية للأرقام تُعطي صورة مختلفة عن أهمّية التحرّك الطلابي، ودوره المؤثّر في تقويض السردية الصهيونية في أقوى دولة في العالم حالياً، وهي الداعم الأكبر لإسرائيل دون منازع. فما هي الأرقام الذي جاء بها الاستطلاع؟ وما هي الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها، ولم يعبأ بها تقرير أكسيوس؟

أرقام أساسيّة في الاستطلاع

– أوّلاً، أُجريت هذه الدراسة بين 3 و6 أيار الحالي، على عيّنة تمثيلية تتألّف من 1,250 طالباً على مستوى البلاد، وهم من معاهد ومؤسّسات تربوية، مدّة الدراسة فيها بين سنتين وأربع سنوات. ويبلغ هامش الخطأ في الاستطلاع +/-2.7 نقطة مئوية.

تكمن العلّة الأساسية في تركيز الاستطلاع على مظاهر الاحتجاج وأساليبه، لا على جوهر القضية التي ثار من أجلها الطلاب في الجامعات الأميركية

– ثانياً، لم تشارك سوى أقلّية صغيرة من طلاب الجامعات في الاحتجاجات، سواء المؤيّدة لفلسطين أو لإسرائيل، أي 8% فقط. واعتبر الطلاب الذين شاركوا في الاستطلاع أنّ الصراع في الشرق الأوسط هو القضيّة الأقلّ أهمّية من بين تسعة خيارات، أي بعد إصلاح الرعاية الصحّية (40%)، تمويل التعليم والوصول إليه (38%)، العدالة الاقتصادية وتكافؤ الفرص (37%)، العدالة العرقية والحقوق المدنية (36%)، تغيّر المناخ (35%)، وضبط السلاح الفردي (32%)، وسياسات الهجرة (21%)، الأمن القومي وقضيّة الإرهاب (15%)، والصراع في الشرق الأوسط (13%).

– ثالثاً، وجد الاستطلاع أنّ عدد طلاب الجامعات الذين يلومون حماس على الوضع الحالي في غزة، هم ثلاثة أضعاف عدد الذين يلومون الرئيس بايدن: 34% يلومون حماس، و19% يلومون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، و12% يلومون الشعب الإسرائيلي، و12% يلومون بايدن.

– رابعاً، تؤيّد أغلبية كبيرة من الطلاب (81%) محاسبة المتظاهرين المؤيّدين لفلسطين، وتتّفق مع فكرة أنّ على أولئك الذين دمّروا الممتلكات أو خرّبوا المباني أو احتلّوها بشكل غير قانوني أن يتحمّلوا المسؤولية أمام إدارة الجامعة التي ينتمون إليها، وفقاً للاستطلاع. وقالت الأغلبية أيضاً إنّها تعارض تكتيكات الاحتجاج: 67% يقولون إنّ احتلال مباني الحرم الجامعي أمر غير مقبول، ويرى 58% أنّ من غير المقبول رفض أمر الجامعة لهم بالتفرّق. ويشير 90% آخرون إلى أنّ منع الطلاب المؤيّدين لإسرائيل من دخول أجزاء من الحرم الجامعي أمر غير مقبول.

– خامساً، ثمّة جانب آخر من الواقع، كشف عنه الاستطلاع، وهو أنّ الطلاب المشاركين في الاستطلاع المذكور لا يزالون أكثر ميلاً إلى القول إنّهم يدعمون المخيّمات المؤيّدة للفلسطينيين بدلاً من معارضتها. قال 45% منهم إنّهم يؤيّدونهم بقوّة أو قليلاً. 30% كانوا محايدين، و24% منهم عارضوا ذلك بشدّة أو قليلاً.

يُفهم من أرقام الاستطلاع، ومن ناتجها السياسي، أنّ لها غاية واحدة، وهي استكشاف مدى الأثر السلبي للاحتجاجات الطلابية في حظوظ بايدن في الانتخابات الرئاسية

– سادساً، غالبية الطلاب الذين شاركوا أو فضّلوا الاحتجاجات ضدّ إسرائيل، أي 58% من الطلاب المشاركين في الاستطلاع، قالوا إنّهم لن يفكّروا في تكوين صداقات مع شخص شارك في مسيرة من أجل إسرائيل. وفي الوقت نفسه، قال 64% ممّن شاركوا في الاحتجاجات المؤيّدة لإسرائيل إنّهم سيظلّون أصدقاء مع شخص شارك في مسيرة ضدّ إسرائيل.

استنتاجات مختلفة

يُفهم من أرقام الاستطلاع، ومن ناتجها السياسي، أنّ لها غاية واحدة، وهي استكشاف مدى الأثر السلبي للاحتجاجات الطلابية في حظوظ بايدن في الانتخابات الرئاسية، في تشرين الثاني المقبل، وذلك للبناء على الشيء مقتضاه، من مواقف وسياسات، تداركاً للتراجع في شعبيّته في أوساط الحزب الديمقراطي. لكن يمكن استخلاص نتائج إضافية من الأرقام نفسها، أغفلها تقرير أكسيوس، أو لم يُعرها اهتماماً، وذلك بمنهج النظر الشمولي لمختلف الإجابات التي أدلى بها الطلاب المشاركون في هذا الاستطلاع الموجّه بطريقة يعرفها المختصّون جيّداً، من نوع السؤال، وتوجيه المستجوَب من خلال طريقة طرح السؤال عليه، وحصر الخيارات سلفاً أمامه.

على سبيل المثال، بعض الأرقام تناقض بعضها من حيث الظاهر. وبعض الأرقام لم تُستخلص منها الاستنتاجات المطلوبة. ثلث الطلاب يلوم حركة حماس على ما يجري في غزة، في حين أنّ ثلثي الطلاب يلومون إمّا نتنياهو (19%) أو الشعب الإسرائيلي (12%) أو بايدن نفسه (12%)، أي أنّ نسبة كبيرة من الطلاب لا يلومون حماس، بل يلومون إسرائيل والإدارة الأميركية. ويؤيّد معظم الطلاب الأميركيين إقامة الاعتصامات في الجامعات انتصاراً لفلسطين وغزة، وفي الوقت نفسه تؤيّد أغلبية كبيرة منهم محاسبة الذين نصبوا المخيّمات في الأحرام الجامعية؟ فهل هم يؤيّدون الاعتصام بحدّ ذاته، ويعارضون تخريب الممتلكات، أو إنزال العلم الأميركي ورفع العلم الفلسطيني مكانه على سبيل التكهّن والاحتمال؟ الثابت أنّ معظم الطلاب يؤيّدون التحرّكات انتصاراً لفلسطين، ولو كان الشرق الأوسط وصراعه في أسفل الأولويّات، وحتى لو لم يشارك في الاحتجاجات ككلّ إلا نسبة ضئيلة منهم. وهذه نسبة معقولة بالنسبة لتاريخ التحرّكات الشعبية في التاريخ. فالنواة الصلبة لأيّ تحرّك لا تكون كبيرة العدد.

أراد الاستطلاع أن يطمئنّ على مصير بايدن في معركة التجديد، ولم يكن في عمق اهتمامه دراسة الرأي الشبابي النامي تمرّداً على السردية الصهيونية

أمّا السؤال الجوهري، الذي كان على الاستطلاع طرحه على العيّنة الطلابية المشاركة، فهو عن نسبة الطلاب المؤيّدين لفلسطين في كلّ الجامعات الأميركية بغضّ النظر عن مشاركتهم في الاعتصامات، أو رأيهم في تعطيل الدراسة الأكاديمية إلى حين فكّ الارتباط بين هذه الجامعة أو تلك مع الجامعات الإسرائيلية أو مع مؤسّسات تدعم إسرائيل؟ وبالمقابل، كم نسبة الطلاب الذين ما زالوا يعتقدون بما لُقّنوا إياه من تفاصيل السردية الصهيونية، بمعنى الحقّ التاريخي ليهود العالم في العودة إلى ما يعتقدونه أنّه الأرض الموعودة دينياً، وأرض الأسلاف قبل آلاف السنين؟ حينذاك كانت الصورة لتتغيّر بالطبع.

تُضاف إلى ذلك مسألة مهمّة، وهي أنّ الانتفاضة الطلابية الحالية لا يمكن أن تُقارن بالانتفاضة الطلابية التي جرت وقائعها خلال حرب فيتنام أواخر ستّينيات القرن الماضي. في ذلك الوقت، كان الأميركيون يقاتلون في أرض آسيوية نائية لا يعرفون شيئاً عنها، ولا يدركون أهمّية القتال فيها، ولا سفك الدماء من أجلها، وإنفاق الأموال الطائلة لسداد تكاليفها الباهظة. وكان التجنيد الإجباري ساري المفعول في الولايات المتحدة، والطلاب المنتفضون على حرب فيتنام يرفضون المشاركة في حرب يرفضونها من حيث المبدأ.

الانتفاضة الطلابية الحالية لا يمكن أن تُقارن بالانتفاضة الطلابية التي جرت وقائعها خلال حرب فيتنام أواخر ستّينيات القرن الماضي

في الخلاصة، تكمن العلّة الأساسية في تركيز الاستطلاع على مظاهر الاحتجاج وأساليبه، لا على جوهر القضية التي ثار من أجلها الطلاب في الجامعات الأميركية. فهم انتفضوا أوّلاً على قتل المدنيين في غزة بالسلاح الأميركي وبأموال الضرائب التي يدفعها المكلّف الأميركي. ثمّ انتقلوا إلى نقطة أعمق، وهي سبر حقيقة القضية الفلسطينية، ودور الاحتلال الصهيوني في قمع سكّان الأرض الفلسطينية، وطردهم منها بكلّ الوسائل الممكنة، وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن، وأنّ المسألة ليست كما يروّج نتنياهو وغيره من دعاة الصهيونية من أنّ جماعة فلسطينية إرهابية تريد القضاء على اليهود ودولتهم، كما كان الألمان النازيون إبّان الحرب العالمية الثانية يريدون إبادة اليهود في أيّ مكان وصل إليه الجيش الألماني آنذاك.

أراد الاستطلاع أن يطمئنّ على مصير بايدن في معركة التجديد، ولم يكن في عمق اهتمامه دراسة الرأي الشبابي النامي تمرّداً على السردية الصهيونية. وهذه سابقة تاريخية لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل.

إقرأ أيضاً: !God Bless America

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…