وعد بلفور: أوروبا تطرد يهودها… وأميركا توافق (4/2)

مدة القراءة 7 د

في قراءة نقدية حول الصهيونيّة والصهيونيّة المسيحيّة ومعاداة الساميّة، يقدّم الدكتور مصطفى علّوش خلاصة دراسة أعدّها، على أربع حلقات، ينشرها موقع “أساس”. في الحلقة الثانية استقصاء تاريخي لمشروع تهجير اليهود خارج أوروبا، ولأسباب انضمام أميركا إلى “وعد بلفور”.

 

يتّفق معظم علماء التاريخ على أنّ “الحلّ النهائي” لم يتمّ تفصيله صراحة في “كفاحي”، الكتاب الذي كتبه أدولف هتلر في أوائل عشرينيات القرن الماضي، والذي شرح فيه أيديولوجيّته السياسية وآراءه في ما يتّصل بألمانيا وأوروبا. ما يمكن استنتاجه من أفكاره هو أنّه يجب نقل اليهود بعيداً عن ألمانيا بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام. ومع ذلك، أصبح مصطلح “الحلّ النهائي” مرتبطاً بالهولوكوست التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية، والتي نفّذ النظام النازي من خلالها خطّة منهجية لإبادة ملايين اليهود والأقلّيات الأخرى.

سأحاول في ما يلي إلقاء الضوء على الأساس الحقيقي للصهيونية المسيحية وكونها، في جوهرها، شكلاً من أشكال معاداة السامية يبحث عن “حلّ نهائي” من نوع آخر.

الصهيونية المسيحية.. والكتاب المقدّس

تستند الصهيونية المسيحية أساساً إلى التفسير اللاهوتي المسيحي للعهدين القديم والجديد. هذه الأيديولوجية تجذّرت في حركة المسيحية الإنجيلية الاستعاديّة (الأصولية)، وهي فكرة لاهوتية وتاريخية داخل المسيحية تسعى إلى استعادة ما يعتقد أتباعها أنّه الشكل الرسوليّ الأصلي للمسيحية كما هو مستقى من العهد الجديد. غالباً ما تُربط هذه الحركة بالرغبة في العودة إلى ممارسات ومعتقدات الكنيسة المسيحية الأولى. الملامح الرئيسية للإنجيلية الاستعاديّة هي رفض التحوّلات العقائدية في التاريخ المسيحي، والالتزام بمرجعيّة الكتاب المقدّس كدليل وحيد للإيمان والممارسة، مع استمداد بعض الإلهام من العهد الجديد. الإنجيلية الاستعاديّة مصطلح واسع يمكن أن يشمل مختلف التوجّهات والحركات والكنائس الإنجيلية. وقد تكون للمجموعات المختلفة ضمن هذا المصطلح الشامل معتقدات وممارسات يتميّز بعضها عن بعض، لكنّها تشترك عموماً في الهدف المتمثّل في إعادة المسيحية إلى ما تعتبره شكلها الأصلي النقيّ.

لم يكن دعم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لوعد بلفور جدّياً لولا نظرته إلى أميركا على أساس أنّها “صهيون الجديدة” بحكم دعمه للمسيحية الاستعاديّة

أمّا بالنسبة للصهيونية المسيحية فهي تحوي في طيّاتها تناقضات أساسية. أوّلاً، على الرغم من أنّ المسيحية الصهيونية تصرّ على أنّها توجّه لاهوتي بحت، وليست سياسية، فإنّ هذا الفصل بين الأمرين غير ممكن عندما نحكم على عواقبه السياسية. ثانياً، إنّ استخدام الصهيونية اليهودية السائدة للصهيونية المسيحية للتأثير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة مبنيّ على ضلال، لأنّ الصهيونية المسيحية تقوم على الرغبة في تنصير أو إبادة جميع اليهود، وليس تعويضهم عن الظلم ولا نصرتهم. ثالثاً، الصهيونية المسيحية معادية للساميّة، وترغب في القضاء على جميع اليهود غير المتنصّرين (مع العرب المسلمين). أخيراً، بما أنّ الصهاينة المسيحيين يفسّرون العهدين القديم والجديد بطريقة “حرفيّة”، فإنّهم يلجأون إلى أسطورة “حرّ مجدو” لحلّ مسألة تناقضاتهم اللاهوتية، أي من خلال التدخّل الإلهي.

“فلسطين في خطر دائم من الحريق. الشرر يتطاير فوق حدودها طوال الوقت، وقد يبدأ حريق، في يوم غير متوقّع، ويجتاح هذه الأرض بلا رحمة”.

رسالة من أوتيس جلازبروك، القنصل العامّ للولايات المتحدة في القدس، في كانون الأول 1919.

لماذا دعمت أميركا وعد بلفور؟

لم يكن دعم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لوعد بلفور جدّياً لولا نظرته إلى أميركا على أساس أنّها “صهيون الجديدة” بحكم دعمه للمسيحية الاستعاديّة، وفكرة عودة اليهود إلى أرض الميعاد. منذ زمن المهاجرين المتشدّدين الأوائل (بوريتان)، رأى الأميركيون أنّ بلادهم لها أهميّة دينية. أُعطيت على هذا الأساس آلاف المدن في القارّة الجديدة أسماء توراتية، وكان تدريس العبريّة جزءاً إلزامياً من مناهج الكلّيات الدراسية. تمّ التعبير عن الالتزام بالاستعاديّة من قبل القادة الأميركيين في وقت مبكر، منذ أيام رئيس أميركا الثاني جون آدامز، الذي كتب في إحدى رسائله: “أتمنّى حقّاً لليهود أن يكونوا مرّة أخرى في يهودا كأمّة مستقلّة”.

 أيّد ويلسون وعد بلفور، على الرغم من نصيحة أقرب مستشاريه بعكس ذلك، وتجاهل أيضاً تقرير لجنة “كينغ-كراين”

على عكس التحالفات الأميركية الأخرى، التي تقوم على القيم الديمقراطية والمصالح الاستراتيجية المشتركة، تتشكّل الروابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل أيضاً من خلال العلاقة الروحية بين البلدين. كان للاستعادية تأثير كبير على الرئيس ويلسون، فقد كان والده واعظاً إنجيليّاً مشيخيّاً. أيّد ويلسون وعد بلفور، على الرغم من نصيحة أقرب مستشاريه بعكس ذلك، وتجاهل أيضاً تقرير لجنة “كينغ-كراين” التي أرسلها لتقصّي الحقائق في فلسطين، وأوصت بالتراجع عن وعد بلفور. تأثّر ويلسون أيضاً بواقع الجغرافيا السياسية، فقد قام الجدل حول وعد بلفور في خضمّ الحرب العالمية الأولى عندما بدا أنّ الروس قد يتخلّون عن الجبهة الشرقية، وأنّ الولايات المتحدة كانت تفكّر في الانضمام إلى المجهود الحربي في تلك الحرب. كان ويلسون متردّداً أثناء حملته الانتخابية بشأن دخول الحرب، لكنّه كان أيضاً قلقاً من عواقب بقاء الولايات المتحدة خارج الحرب، وتالياً خارج حلقة التأثير الدولي.

اليهود الصهاينة… والدرس الأميركي

كانت بريطانيا تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة في الحرب، وبالتالي كانت على استعداد لتأجيل إعلان وعد بلفور إلى أن يوافق ويلسون عليه. كان الأخير عالماً بإمكانية أن تعلن ألمانيا وعداً خاصاً بها لليهود في سبيل دعوة الصهاينة إلى التحالف ودعم جبهتها. بالإضافة إلى ذلك، وبينما كان ويلسون متعاطفاً مع الصهاينة، كان يقيم اعتباراً مهمّاً لعلاقات الولايات المتحدة مع تركيا. ففي عام 1914، وعلى الرغم من أنّ تركيا كانت قد قطعت علاقاتها مع أميركا، وانحازت إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، لكنّ الطرفين وعدا بالحفاظ على علاقة ودّية قدر الإمكان، وعلى الحفاظ على مصالح الطرف الآخر.

كانت بريطانيا تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة في الحرب، وبالتالي كانت على استعداد لتأجيل إعلان وعد بلفور إلى أن يوافق ويلسون عليه

كان ويلسون ومستشاروه متردّدين في دعم أيّ تحرّكات بريطانية من شأنها أن تضرّ بالعلاقة مع العثمانيين، وخاصة في ما يخصّ فلسطين. لكلّ ذلك كان ويلسون على استعداد للاعتراف بوطن لليهود ما دام الأمر سيتمّ بشكل هادئ. لكنّ لويس برانديز، وهو صهيوني يهودي وقاضي المحكمة العليا الأميركية، وصديق مقرّب من ويلسون، لعب دوراً حاسماً في قلب الميزان وحثّ الرئيس الأميركي على إعطاء لندن الضوء الأخضر لوعد بلفور.

هكذا تعلّم الصهاينة اليهود درساً مهمّاً من البريطانيين، وهو أهميّة المشاورات مع الولايات المتحدة بخصوص أيّ أمر مهمّ، قبل عقود من نموّ التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل طولاً وعرضاً. من هنا، وعلى الرغم من العديد من الأزمات على مدى عقود، بدأت العلاقة شراكة هادئة بين لندن وواشنطن منذ فترة طويلة في ما يتعلّق بالمسألة اليهودية والدعوة الصهيونية.

إقرأ أيضاً: الصهيونية والصهيونية المسيحيّة ومعاداة الساميّة (1/4)

في الحلقة الثالثة غداً:

الصهيونية المسيحية: تدعم إسرائيل… للقضاء عليها

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…