“لم أغسل دمي من خبز أعدائي ولكن كُلّما مرّت خُطَايَ على طريقٍ
فرّتِ الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبةِ
فالتجأتُ إلى رصيف الحلم والأشعار كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجرُ
آه من حلمي ومن روما! جميلٌ أنت في المنفى قتيلٌ أنت في روما” (محمود درويش)
فيما أخذ العالم بمظهر آلاف الجامعيين، من طلاب وأكاديميين، عرب وأميركيين ويهود غير صهاينة، يعبّرون عن غضبهم لاغتيال آلاف البشر تحت ركام منازلهم في غزة، فيما العالم يتفرّج مشاركاً في الجريمة، بمجرّد عدم القيام بما وعدت به الديمقراطية وحقوق الإنسان، خطر ببالي أن لا الديموقراطية ولا حرمة الجامعات ولا قدسيّة التعبير عن الرأي، وهي أركان أساسية من الليبرالية، قادرة على حماية المساكين المظلومين، ما دامت ملكية تلك الأسس موجودة لدى قلّة من القادرين. فنعيت عندها الديمقراطية والليبرالية لكونهما آمالاً كاذبة للضعفاء، وكتبت ما يلي.
وصف نيتشه الديانة المسيحية بأنّها تسبّبت بإيهام الضعفاء والقاصرين عن التفوّق بأنّهم متساوون مع القادة العظام والمبدعين. أنا أعتقد أنّ سرّ نجاح تلك الديانة، كما الديانات الإبراهيمية، بالتفوّق على عبادة زوس وعشتار ومردوخ وآل… هو أنّها أعطت الانطباع للضعفاء والمساكين بأنّهم متساوون كبشر مع القادة العظام والمبدعين، وأنّ بإمكانهم أن يكونوا هم، بمعونة إعجازية وبإيمانهم، قادة ميامين ومبدعين. وإن فشلوا في تحقيق ذلك في الحياة الدنيا، فسيتساوى الجميع عند الموت، لكنّ المساكين سيعوَّض عليهم بالحياة الأبدية.
ما نراه اليوم من قمع لحرمات الجامعات في بلد اخترع هذه الحرمة يؤكّد للمساكين أنّ آمالهم، ماتت ودُفنت
يقول نيتشه إنّ القوّة الدافعة الأقوى للبشر في الحياة هي إرادة القوّة. أي السعي إلى تجاوز القدرات المحدودة المفروضة على البشر بوجودهم في العالم، ثمّ التفوّق بشكل من الأشكال، من دون الالتفات إلى من وما يتمّ دوسه والتضحية به على طريق التفوّق. أي أنّ الشفقة والرحمة وإغاثة الملهوف والعفو والتعفّف كلّها صفات دأبها إعاقة المتفوّق ومنعه من تحقيق ذاته. وبما أنّ المتفوّقين أقلّية ضئيلة بالمقارنة مع الأكثرية الأقلّ في القدرات، فإنّ الأكثرية الضعيفة، بطبيعة الأمر. ستسعى إلى الانضمام إلى منظومة تعيق المتفوّق، وتعيده ليتساوى مع المساكين، أو تعطي الفرصة للمساكين ليصبحوا متفوّقين، إن لم يكن في الحياة فليكن بعد الموت. بالمحصّلة فإنّ المجموعتين تسعيان إلى تحقيق نفسَيهما من خلال إرادة القوّة، الأولى من خلال تخطّي ودوس منظومات تضع الحدود على الطغيان، والثانية معتمدة على تلك المنظومات التي تضع حدّاً أمام طغيان المتفوّقين.
إرادة القوة عند المساكين
لم تكن قوّة الفكرة لأنّها تستهدف العقل والمنطق. بل لأنّها تستهدف دعم غريزة إرادة القوّة عند المستضعفين المساكين، في مواجهة النخب المستكبرة. لكنّ هذه الأفكار بدأت تتعرّض للتشكيك منذ القرن الخامس عشر، بعدما تحوّلت إلى سلاح لقمع المساكين وتصبيرهم على الجور في الدنيا بوعود غير مضمونة في الآخرة. في حين أنّ صكوك الغفران أصبحت أداة جديدة في يد المستكبرين لضمان مصيرهم في الخلود بعد الموت. بالطبع، لم يكن هذا كافياً، لكنّ الثورة العلمية التي رافقت وتلت الانقسام الكبير في الكنيسة والحروب الدينية في أوروبا. وضعت الأفكار القديمة بأكملها موضع تساؤل من قبل النخب.
قدّم المساكين إرادتهم للقوّة ذبائح على طريق إرادة القوّة للقلّة بالقتال من أجل الطرفين في ساحات الحرب
أوّل إشارة إلى المساكين كانت، للمفارقة، مع آدم سميث، فيلسوف الرأسمالية، الذي دعا في أواسط القرن الثامن عشر إلى تحرير أرزاق الناس من قبضة القلّة الإقطاعية. ليدخل الجميع، ومن ضمنهم المساكين، في منافسة عامّة على الارتزاق ترعاها يد السوق الخفيّة، من دون تدخّل المستكبرين. لكن سرعان ما تلقّف المستكبرون المبادرة وتحوّلوا إلى اقتصاد السوق وتفوّقوا باستعادة رغبة القوّة إلى أحضانهم. وعادت الأكثرية من المساكين من مغامرة اليد الخفيّة بخفّي حُنين. لكن من دون أمل في الحياة ولا بعدها. إذ تسبّب الفقر واليأس لهم بالكفر والرذائل وسُدّت أبواب الخلاص في وجههم، فيما بقيت القلّة القادرة تشتري طريقها إلى الخلاص بالرفاه في الحياة الدنيا، وبالصدقة للبعض لشراء الحياة الأخرى!
وقود الرأسمالية والاشتراكية
أتت الاشتراكية لتنقذ المساكين من انسداد سبل الأمل، وانطلق نداء ماركس وإنجلز لدعوة عمّال العالم إلى أن يتّحدوا، ووعدوهم بأنّهم باتّحادهم لن يخسروا شيئاً سوى قيودهم. لكن سرعان ما تحوّلت تلك الدعوة إلى كارثة على مدى أكثر من قرن من الثورات والحروب. وعادت القلّة من المستكبرين لتركب موجة التحرّر من القيود كوسيلة مبتكرة لإرادة القوّة. وقود المتفوّقين الجدد، رأسماليين واشتراكيين، هم المساكين. وهو ما حدث أيّام ديانات العهد القديم حين كانت تُقدَّم الذبائح البشرية لمولوخ، وكان يحلّ الموت جوعاً ومرضاً عند الإقطاعي المرعيّ من رجل الدين، وفي المناجم والمصانع في أيام آدم سميث، وكذلك بعد ماركس وإنجلز. قدّم المساكين إرادتهم للقوّة ذبائح على طريق إرادة القوّة للقلّة، بالقتال من أجل الطرفين في ساحات الحرب، باردة كانت أم مشتعلة!
لم تكن قوّة الفكرة لأنّها تستهدف العقل والمنطق بل لأنّها تستهدف دعم غريزة إرادة القوّة عند المستضعفين المساكين
هنا استخرج البعض من المثقّفين دفتراً قديماً من أثينا القديمة عنوانه الديمقراطية، فطوّروها وجمّلوها لتصبح مغرية لحشود المساكين المحرومة من السبيل إلى القوّة. ظنّ الناس أنّها التعويذة الأعظم في التاريخ لكونها تساوي بين الجميع في صندوق الاقتراع. يعني أنّ إرادة القوّة عادت للمساكين من جديد من خلال اختيار من يمنحونه ويوكلون إليه إرادة القوة التي يسعون إليها، على أساس أنّ الأمر يبقى بإدارتهم، وأنّهم سيحاسبون من وكّلوه في الانتخابات المقبلة.
لكن، بسهولة فائقة، عاد الإقطاعي والرأسمالي والقائد الشيوعي ليكونوا الموكلين إدارة الرغبة بالقوّة. وصارت القلّة من الناس تمتلك وتدير كلّ وسائل إقناع المساكين باختيارهم في أعراس الديمقراطية في العالم عندما يتنافس على أصوات المساكين متخاصمون من قبيلة واحدة من هؤلاء القلّة، ومن يتطاول على المنافسة، ويبقى على الرغم من ذلك من أكثرية الناس، “يُضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم” لأنّه لم ينتقل إلى صفّ النخب المتمتّعة بكلّ وسائل إرادة القوة، وبقي يتفاخر ويدافع عن حقوق المساكين! وهذا الصنف من الناس ينفضّ عنه المساكين بسرعة. لا بل يتجنّبونه، لمجرّد كونه منهم ولهم، ولا يملك ما يكفي من إرادة القوّة.
إقرأ أيضاً: عن فلسطين ولعنة وحدة السّاحات
بقيت الجامعة ملاذاً لبعض هؤلاء الذين يملكون الجدارة لتملّك إرادة القوّة. واعتقدوا أنّهم قادرون على استخدام حرم الجامعات والأكاديميا كسلاح في مواجهة من يملك كلّ وسائل إرادة السلطة عبر العصور. لكنّ هؤلاء، أصحاب السلطة والمال والنفوذ، فهموا اللعبة المكشوفة. فشيّدوا الجامعات وشجّعوا البحث الحرّ وضرب البديهيّات، لكنّهم بثرواتهم وضعوها تحت رقابة سلطتهم. ما نراه اليوم من قمع لحرمات الجامعات في بلد اخترع هذه الحرمة، أي الولايات المتحدة الأميركية. يؤكّد للمساكين أنّ آمالهم ببعض إرادة القوة، أكان بالعلم أو بالديمقراطية، ماتت ودُفنت قبل أن تولد، فلا عزاء للمساكين.
لمتابعة الكاتب على X: