الحراكات الطالبية في الجامعات الأميركية وامتدادها في مثيلاتها الغربية، يقظة متأخّرة نسبياً من سبات عميق يغطّ فيه ما يسمّى العالم الحرّ الذي يعمل جاهداً على تشكيل وعي عامّ لدى الأجيال الجديدة يتلاءم مع ما تقتضيه مصالحه ورؤيته الخاصة بكوكب الأرض ويتجاهل الظلم المترامي في أصقاع الدنيا. أهمّيته أنّه في الظاهر يأتي متمحوراً حول القضية الإنسانية في فلسطين عموماً، وغزة خصوصاً، لكنّه في واقع الأمر قد يكون أقرب إلى “ثورةٍ عالميّة”، ما بعدها لن يكون كما قبلها.
جامعة كولومبيا نقطة البداية
ليس غريباً أن تكون غزة التي تشهد أفظع جريمة ضدّ الإنسانية في التاريخ الحديث، شعار الحراك الاحتجاجيّ وموضوعه. وليس غريباً أيضاً أن تكون جامعة كولومبيا نقطة البداية، ذلك أنّها منبر إدوارد سعيد أبرز من عرَّف بالسرديّة الفلسطينية والحقّ الفلسطيني بالحرّية والاستقلال. وليس غريباً أيضاً أن تمتدّ شرارة الاحتجاج إلى كلّ الجامعات الأخرى عندما تُمسّ حرّية التعبير، وعندما تظهر الفجوة فجّة بين القيم المدّعاة والممارسات السياسية للسلطات الحاكمة. وربّما غزة اليوم هي المرآة الفاضحة للتناقضات في النظام العالمي وفي داخل الأنظمة الغربية، مثلما كانت حالة جنوب إفريقيا في التسعينيات وقبلها حالة فيتنام في السبعينيات.
فلسطين تحضر عبر هذه الحراكات المتنقّلة بين العواصم والمدن والجامعات الكبرى في الوجدان العالمي وتعود قضيّتها إلى صدارة الاهتمام. وتُبرز في حضورها الطاغي مدى انتهاكات الغرب وأنظمته لحقوق الإنسان. وهي التي تدّعي أنّها حصنه المنيع، ولا تنفكّ تكيل بمكيالين ولا تكتفي بغضّ النظر عن إبادة جماعية تجري على أرض القطاع على مرأى من العالم. بل تعمد إلى تغطيتها وتتورّط فيها حتى النخاع.
نخبة الطلاب الجامعيين في أميركا وأوروبا وأوستراليا. يقولون في اعتصاماتهم وتحرّكاتهم: لا للعنف المفرط، لا لإطلاق يد إسرائيل في جرائمها، لا لانتهاك العدالة الدولية، لا للتمادي الأميركي الغربي في فرض رؤية أحادية الجانب للعالم، لا للظلم الذي يمارس ليس فقط في حقّ الفلسطينيين. بل في حقّ شعوب كثيرة مصنّفة في عداد المهمّشين.
ليس غريباً أن تكون غزة التي تشهد أفظع جريمة ضدّ الإنسانية في التاريخ الحديث، شعار الحراك الاحتجاجيّ
قلق المنظومة الأميركية
المنظومة السياسية الأميركية، بشقَّيها الديمقراطي والجمهوري والليبرالي. تدرك خطورة استفحال التمرّد الطالبيّ وما قد يحمله من تغيّرات ثقافية فكرية وسياسية في البنى الفوقية لمجتمعها، وبين نخبها المستقبلية، فتعمد إلى قمعها وإنهائها قبل نضوجها، تارة بالعنف والقوّة في مواجهتها، وتارة أخرى بحرفها عن مسارها وتشويه صورتها بوصفها “معاداة للسامية”، أو عملاً من أعمال المنظّمات الإرهابية. وكلا التصنيفين يطالهما القانون. علماً أنّ الجامعات المعنيّة هي جامعات النخبة التي خرّجت كبار قادة أميركا والغرب الذين يشغلون أعلى المناصب الحكومية والاقتصادية والفكرية.
الجامعات الغربية تقول اليوم كلمتها. أمّا الجامعات العربية فتغطّ في سبات عظيم. في الضفة الغربية 21 مؤسّسة جامعية، عرفت بثوراتها الدائمة ونضال طلّابها المستميت من أجل التحرّر والاستقلال وبناء الدولة المستقلّة. لكنّها لم تتفاعل بعد مع التحوّلات الكبرى في شأن القضية الفلسطينية، على عكس عادتها وطبيعتها الثورية.
اتّحاد طلاب فلسطين والحركة الطالبية الفلسطينية اضطلعا بدور مهمّ في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال رفده بالكوادر المناضلة والواعية، والتأثير على القرار السياسي الفلسطيني.
لا شكّ في أنّ المنعطفات التاريخية التي مرّت بها القضية الفلسطينية أثّرت على مدى فعّاليّة مجالس الطلاب والحركة الطالبية عموماً في القرار السياسي. وربّما أبرز هذه التحوّلات كانت في المرحلة التي أعقبت إعلان اتفاق أوسلو، وتشكيل السلطة الفلسطينية. وما نتج عنه من ضعف لمنظمة التحرير وتراجع فصائلها عن القيام بأدوارها كما في السابق. وربّما مشروع بناء الدولة الذي قام على المحاصصة والانقسام. جعل الحركة الطالبية أيضاً جزءاً من لعبة المحاصصة، فتغيّر دور الحركة الطالبية وطبيعته. وجعلها أيضاً رهن الانقسامات والصراعات القائمة على المناكفات والكيدية السياسية. وجاء انقسام 2007 ليزيد الطين بلّة ويجعل من الطلاب أدوات صراع داخلي بدلاً من رفد العمل الوطني بالنخب، التي يتعيّن أن يكون همّها الوحيد إنهاء الاحتلال.
الحراكات الطالبية في الجامعات الأميركية وامتدادها في مثيلاتها الغربية، يقظة متأخّرة نسبياً من سبات عميق
من جهته، فإنّ الاحتلال الذي يدرك خطورة الحركة الطالبية عليه مستقبلاً لأنّها الأكثر قدرة على تأطير المجتمع وتسييسه وتعزيز نضاله. لجأ إلى سياسة “جزّ العشب” ضدّ هذه الحركة وكوادرها، تماماً مثلما فعل مع الحركة الوطنية الفلسطينية. فأبقاهما تحت التهديد الدائم والضغط المستمرّ، واستهدفهما بحملات أمنيّة ممنهجة. لشلّ قدرتهما على العمل والفعل وأخذ المباردة وزرع الخوف في نفوس أفرادها وإقناعهم بعدم جدوى أفعالهم. ومنذ ما قبل “طوفان الأقصى” تتعرّض الحركات الطالبية في الداخل والضفة لضربات استباقية، وملاحقة واسعة وحملة اعتقالات قاسية وتحويل مئات الطلاب إلى لجان طاعة تحوّلت إلى ما يشبه تحقيقات مخابراتية بمجرّد النشر في وسائل التواصل الاجتماعي.
نتنياهو خائف
لكنّ الوهن الذي أصاب الحركات الطالبية الفلسطينية في الداخل لم يقلّل من عزمها ونشاطها وفاعلية أفرادها، في الخارج. لا سيما في الجامعات الأميركية، ذلك أنّ تفوّقهم العلمي والأكاديمي وإنتاجهم المعرفي المميّز. جعلهم يضطلعون بأدوار قيادية في صفوف تجمّعات الطلاب والأساتذة. ويبنون تحالفات واسعة مع نظرائهم العرب والأجانب. وربّما السرّ الكامن في قوّة تأثير نضالهم قدرتهم على صوغ خطاب يقوم على قيم العدالة وحقوق المهمّشين والأقلّيات. وبناء تقاطعات مشتركة مع نضالات السود والنساء وغيرها من النضالات في الولايات المتحدة. وهو ما نتج عنه قبول واسع للقضية الفلسطينية التي أصبحت ضابطاً وموجّهاً قيميّاً لمعايير الحرّية والعدالة.
إقرأ أيضاً: أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟
وتلاقت رؤية الشباب الفلسطيني المنفيّ مع تغيّرات عميقة ووعي مختلف في أوساط الشباب الأميركي. ومن بينهم خصوصاً الجيل الجديد من الشباب اليهود الرافضين لسياسة الفصل العنصري والإبادة الجماعية الجارية في فلسطين. هؤلاء باتوا محرّكاً أساسياً من محرّكي الاحتجاج. وربّما هذا أكثر ما يقلق نتنياهو وزمرته وداعمي إسرائيل في الكونغرس الأميركي. لأنّه إذا ما تواصل واستمرّ بهذا الزخم لأمكنه زجّ هؤلاء في قفص الاتّهام واستكمال ما بدأته جنوب إفريقيا في محكمة لاهاي الدولية.