العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

مدة القراءة 10 د

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا روابط لغوية ودينية وجغرافيّة واحدة تجمع هذا “الشعب” أو ذاك.

تتناول الحلقة الثانية أسباب “انهيار” الدول التي نخرتها الميليشيات، وازدهار الدول التي تحمل مشروع الإنماء والسلام. وتطرح السؤال: هل يمكن بناء “دول وطنية” دون أن يكون لها مسؤولية اتجاه قضايا المنطقة، وعلى رأسها فلسطين؟

 

 

خُلقت الدول العربية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ونالت بغالبيّتها استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية. جمعت تلك الدول قوميّات مختلفةً وطوائف ومذاهب متعدّدةً ضمن حدودها وضمّت أقلّيات دينيةً وعرقيةً لكلّ منها طموحات وأحلام وتواريخ خاصّة.

في كلّ دولة عربية برزت شريحة اجتماعية تطالب بإلغاء الحدود الجديدة أو ضمّها إلى دول غير التي ضُمّت إليها. مثلاً أهل الأطراف في لبنان (الجنوب وطرابلس والبقاع) نموذج عن تلك الفئات، إذ ظلّوا لسنوات يطالبون بضمّهم إلى سوريا. أيضاً الأكراد في سوريا والعراق الذين طالبوا بدولة قومية خاصة بهم تجمعهم وبني جلدتهم في إيران وتركيا نموذج آخر. وما أكثر النماذج المشابهة في الدول العربية. قامت الدول العربية الحديثة من دون رغبة غالبية سكّانها ودون إرادتهم.

زلزال “العروبة”… وزلزال “الأخوان”

لذا بدت تلك الدول حديثة النشأة هشّةً وضعيفةً وسريعة العطب عند كلّ مفصل تاريخي ومنعطف. وعليه لم تنجح منذ نيلها استقلالها في تثبيت دعائمها، ولا نجحت في بلورة هويّة وطنية جديدة. وكذلك فشلت في الحفاظ على حدودها المعترف بها دولياً في النظام العالمي الجديد الذي تشكّل في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا

هزّ حدود الدول وهويّاتها الجديدة المدّ القومي العربي منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي بعد ثورة الضبّاط الأحرار في مصر وبزوغ نجم الزعيم جمال عبد الناصر. ولاحقاً وصول حزب البعث إلى السلطة في بلدين عربيَّين (سوريا والعراق). برزت في تلك المرحلة محاولات وتجارب عدّة لإزالة الحدود التي رسمها الغرب الاستعماري وفرضها على شعوب المنطقة. لكنّها محاولات باءت بالفشل.

في الأثناء، لم تغِب الدولة الإسلامية أو نموذج الخلافة عن بال مفكّرين إصلاحيين وأحزاب عدّة عابرة للدول. منذ رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده في مصر، مروراً بالثورة الإسلامية في إيران ومشروع تصديرها، انتهاءً بتنظيم الدولة الإسلامية الذي أعلن قيام الخلافة الإسلامية عام 2014، ونصّب أبا بكر البغدادي خليفةً للمسلمين.

هدّدت ولا تزال تهدّد هذه التيّارات الفكرية والأحزاب السياسية والحركات الجهادية الدول الحديثة النشأة في جوهر وجودها وفي دعائمها الرئيسة: الإقليم الجغرافي أو الأرض، والهويّة الوطنية للسكّان أو الشعوب، والسلطة.

طغى الانتماء القومي لشعوب تلك الدول على الانتماء الوطني. كذلك الانتماء الديني. فبينما نحت شرائح واسعة نحو رفع شعار “أمّة عربية واحدة”، مطالبةً بدولة قومية واحدة من الخليج إلى المحيط تجمع من فرّقهم الاستعمار، رافضةً الحدود القائمة والهويّات الجديدة “الضيّقة”… طالبت شرائح أخرى بعودة الخلافة الإسلامية.

ما زاد الطين بلّةً فشل الأنظمة التي استولت على السلطة في تلك الدول في بلورة هويّة وطنية مشتركة وفي الحفاظ على سيادتها، وفي تحويل سكّانها إلى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. أتت بغالبيّتها بانقلابات عسكرية، وحكمت باسم القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين. قمعت شعوبها وألغت الديمقراطية وحلّت الأحزاب وقضت على الحياة السياسية واحتكرت المرافق الاقتصادية لمجموعة ضيّقة من المنتفعين والأقارب.

قضت هذه الوقائع على كلّ أمل في عيش كريم وحياة حرّة. أحالت حياة الأفراد والجماعات جحيماً، وألغت القوانين واستبدلتها بالأحكام العرفية وما شابهها. صارت أنظمة عسكرية بوليسية يجب على المواطن فيها أن ينفّذ من دون اعتراض، وأن يقرّ من دون نقاش، وأن يعيش بلا أسئلة ومساءلة.

لم يعد السلاح في يد الدولة وحدها، ولا عاد استتباب الأمن وتحقيق الأمان للمواطنين مهمّتها وحدها. صار لها فيهما شركاء وما أكثرهم

احتكار استخدام أدوات العنف

نتج عمّا سبق توسّل جماعات أهلية وأقليّات عرقية ودينية وأحزاب سياسية السلاح لحماية أفرادها من بطش الأنظمة، والنأي بنفسها عن صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل، وأحياناً كثيرةً للذود عن هويّات خاصة والخوض في قضايا تتجاوز حدود الدول القائمة وأهدافها ومشاريعها، وأيضاً لرفع الغبن عنها في أحايين كثيرة.

الأمثلة على ما سبق لا تُعدّ ولا تُحصى من أقصى المشرق العربي في العراق إلى أقصى المغرب، ومن لبنان وسوريا إلى اليمن. وعليه، تخلّت الدولة عن أبرز وأهمّ وظائفها وأدوارها: احتكار استخدام أدوات العنف.

تُظهر نظرة سريعة إلى الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه انتشار السلاح بين أيدي أحزاب وجماعات وحركات أهلية وغير أهلية وعشائر، من الحشد الشعبي في العراق، مروراً بشبّيحة النظام في سوريا والحركات والفصائل والأحزاب فيها، والحزب وغيره في لبنان، والحوثيين في اليمن، وصولاً إلى الحركات المسلّحة في السودان.

لم يعد السلاح في يد الدولة وحدها، ولا عاد استتباب الأمن وتحقيق الأمان للمواطنين مهمّتها وحدها. صار لها فيهما شركاء وما أكثرهم. حادث أمنيّ في بغداد تُسأل عنه فصائل الحشد الشعبي. في اليمن تُسأل عنه جماعة الحوثيين. في الضاحية الجنوبية لبيروت يُسأل الحزب… إلخ.

صار آخر من يُسأل الدولة ومؤسّساتها، وهي أوّل من يُحمَّل المسؤولية. لم تكتفِ الدول في هذه البلدان بالتنازل عن حقّها في احتكار استخدام وسائل العنف لنفسها، بل شرعنت استخدامه من أحزاب وحركات وفصائل. تارةً تحت اسم محاربة الإرهاب كما حدث في العراق، وتارةً تحت شعار المقاومة كما في لبنان. وتخلّت عن حصرية امتلاكها قرار الحرب والسلم. أفصح دليل على هذا ما يجري اليوم من اليمن إلى العراق. قرار الحرب والسلم: في لبنان في يد الحزب، وفي اليمن عند الحوثيين، وفي سوريا عند أطراف شتّى من جبهة النصرة إلى جبهات الدفاع عن النظام، وفي العراق بيد فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران، وفي السودان عند قوات الدعم السريع التي تخوض حرباً منذ أشهر ضدّ الجيش السوداني… إلخ.

الدولة الحديثة هي دولة المواطنة. دولة المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين كافّة

التخلّي عن العدالة…

أيضاً تخلّت الدول تلك عن استقلالية قرارها. صارت تتحكّم فيه معطيات ومؤثّرات وعوامل كثيرة أبرزها القواعد العسكرية الأميركية وغير الأميركية التي لا تُعدّ ولا تُحصى من الخليج إلى المحيط. وتخلّت عن أداء أبرز وظائفها وأدوارها ومهامّها: تحقيق العدالة للمواطنين. العدل أساس الملك. لا دولة تدوم بلا عدالة ولا نظام ولا سلطة. أبرز إخفاقات غالبية الدول العربية الحديثة تتمثّل في عجزها منذ قيامها عن تحقيق العدالة لمواطنيها. والعدالة بين المواطنين عدالة قانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية. في غالبية الدول العربية القائمة، هذه العدالة غير موجودة.

وحدها العدالة في الدول والمجتمعات العربية تحمي التعدّد الإثني فيها وتصون التنوّع الثقافي والحضاري. اللاعدالة تزرع الخوف عند الأقلّيات العرقية والدينية. تجعلها متأهّبةً ضدّ كلّ آخر. تحول دون انخراطها في المجتمع والدولة ودون امتثالها للقانون. أقلّية لا تحميها الدولة لن تحمي الدولة، وستبحث حكماً عن حامٍ آخر. تغلغل إيران في أكثر من دولة عربية ما كان ليتمّ لولا ما سبق.

فتّش عن الاقتصاد والتنمية

اللاعدالة هذه لا تبني دولاً. بل هي أولى الخطوات نحو فشل الدول وانهيارها. هذا إذا كانت في دول معافاة اقتصادياً، فكيف إذا كانت الدول تعاني من تعثّر اقتصادي مزمن، ومن شحّ في الموارد؟

غالبية الدول العربية ضعيفة اقتصادياً وشبه منهارة. أحوال العملات العربية خير دليل على هذا. غالبية الدول العربية لا تستطيع تلبية حاجات مواطنيها ورغباتهم، ولا تقدر على توفير الخدمات العامّة الأساسية لهم، فكيف بضمان رفاهيتهم أو دعم نشاطهم الاقتصادي؟

لم تستطع غالبية الدول العربية تحقيق نموّ اقتصادي يُذكر. كانت أحوالها الاقتصادية وهي مستعمَرة أفضل بكثير ممّا هي عليه اليوم. الفقر والندرة المالية وشحّ الموارد الطبيعية عامل رئيس في فشل الدول وانهيارها. التنمية الاقتصادية تعاني ما تعانيه في غالبية الدول العربية. السودان والصومال وموريتانيا واليمن، أربع دول عربية تُصنَّف من بين أقلّ البلدان نموّاً. ثلاث منها تتخبّط في صراعات ونزاعات منذ سنوات.

جاءت إيران إلى المنطقة بعد انتصار الثورة الخمينية فيها العام 1979، ووجدت العلم الفلسطيني متروكاً على الأرض. فالتقطته

… وعن القانون

الدولة الحديثة هي دولة المواطنة. دولة المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين كافّة. دولة المواطنة لا تكون بغير العدالة، العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية والثقافية… إلخ. لم تنجح غالبية الدول العربية في بلورة هويّة وطنية مشتركة بسبب فشلها في تحقيق العدالة لمواطنيها كافّة. وبسبب فشلها في تطبيق القانون على غالبية مواطنيها. في العراق مثلاً، إذا غضب عليك “حجّي” ما طبّق عليك القوانين كلّها، وإن رضي عنك أزال عنك كلّ عقوبة. في سوريا انتماؤك إلى الحزب الحاكم أو الأقلّية الحاكمة يمنحك ميزات كثيرةً، أقلّها يجعلك فوق قوانين كثيرة، ويفتح أمامك الباب واسعاً لشغل وظائف كثيرة.

فلسطين البداية والنهاية: الأمن القومي

يبقى سبب مركزيّ وأساسي قد يكون العثرة الأساس في تطبيق فكرة “الدولة الوطنية”. لأنّ فلسطين ليست مجرّد دولة عربية على الدول المجاورة المساهمة في تحريرها ووقف الحروب على أهلها. بل هي تختصر فكرة “الأمن القومي العربي”.

فمن هذه البوابة سقطت شعوب في الجوع والقهر، بحجة أنّ الأنظمة التي تحكمها تحضّر لمعركة “تحرير القدس”. وجاءت إيران إلى المنطقة بعد انتصار الثورة الخمينية فيها العام 1979، ووجدت العلم الفلسطيني متروكاً على الأرض. فالتقطته وأخذته حتّى دخلت من عنوانه إلى دول عربية كثيرة. وأنشأت ميليشيات مذهبية بحجّة “تحرير القدس”.

في هذه الأثناء كانت “الدولة الوطنية” العربية تنكفىء إلى الداخل، إلى التنمية والازدهار. وبالفعل صنعت دولاً قوية، بعضها مزدهراً، وبعضها الأخر مستقرّاً، وإن كان مُحتاجاً من حين لآخر. لكنّ الأمن القومي العربي كان دوماً مهدّداً من إيران وميليشياتها، تحت عنوان “تحرير فلسطين”.

إقرأ أيضاً: الدولة الوطنية (1/2): كيانات بوجه التطرّف الديني وفلسطين

هناك سبب دائم هو الموضوع الفلسطيني. فكرة الدولة الفلسطينية سمحت لإيران بالتقاط العلم الفلسطيني عن الأرض. وقرار الانكفاء إلى الداخل والتنمية أبعدا العرب عن “أمنهم القومي”… فهل حانت اللحظة لالتقاط هذا العلم وخروج “الدولة الوطنية” إلى فضاء الأمن القومي العربي لصناعة المستقبل وفق جدول أعمال مختلف وجديد؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…