هنيّة على خطى رعد و”السيّد”… عن التحام الفكر والسلوك

مدة القراءة 6 د

اغتالت إسرائيل ثلاثةً من أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية وعدداً من أحفاده. حدث ذلك في أوّل أيام العيد. ماذا أرادت إسرائيل من هذه المقتلة؟ وهل تؤدّي إلى تراجع حماس عن عقيدتها مثلاً، أو تغيير هنيّة رهاناته؟

 

صبيحة أوّل أيام عيد الفطر، استهدفت إسرائيل سيّارةً مدنيةً كانت تتجوّل في مخيّم الشاطئ غرب غزة، فقتلت من فيها. كان في السيارة ثلاثة شبّان هم أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وكان فيها أيضاً عدد من أحفاده. كانوا يقومون بزيارات العيد، وهي من العادات المعروفة في بلادنا. قتلتهم إسرائيل كلّهم.

عقيدة إسرائيليّة

هذه ليست المرّة الأولى التي تقتل فيها إسرائيل عائلةً بغالبيّة أفرادها. ولا هي المرّة الأولى التي تقتل فيها هذا العدد من الشبّان والأطفال.

قبل أسابيع، قتلت إسرائيل أبناء الزميل وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة في غزة، وقضت على عائلته بأكملها. خلال حربها الوحشية على غزة، قضت إسرائيل على عائلات كثيرة، ولم تمحُها من على وجه الأرض فحسب، بل محتها من سجلّات النفوس أيضاً. أكثر من ذلك، حصيلة الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل منذ بدء حربها الوحشية هذه تبلغ حتى اللحظة قرابة 15 ألف طفل قتيل من أصل 30 ألف ضحية تقريباً. والعدد مرشّح للارتفاع يومياً. الموت في غزة صار مجّانياً، وعلى مرأى ومسمع العالم.

ضحايا إسرائيل ليسوا مجرّد أرقام أو جثث. لا تقتل إسرائيل لمجرّد القتل. تقتلهم لمحوهم، ومحو قضيّتهم: تحرير أرضهم. تقتلهم بناءً على عقيدة قتالية لا تستثني عجوزاً أو رجلاً أو شابّاً أو مراهقاً أو طفلاً أو جنيناً. كذلك لا تستثني النساء بمختلف الأعمار. فالعُجّز هم الذاكرة وهم الحكايات التي كانت تدور أحداثها على تلك الأرض. والرجال مقاتلون. والشبّان والمراهقون كذلك. أمّا الأطفال والأجنّة فهم مقاتلو الغد. وأمّا النساء فهنّ الولّادات. الأرحام التي يخرج منها مقاتلون وتخرج منها أرحام أيضاً.

هذه ليست المرّة الأولى التي تقتل فيها إسرائيل عائلةً بغالبيّة أفرادها. ولا هي المرّة الأولى التي تقتل فيها هذا العدد من الشبّان والأطفال

لكلّ اغتيال معنى

في المقابل يقدّم الفلسطينيون أغلى ما عندهم، مواطنين عاديّين أو قادةً ومسؤولين. الضحايا في فلسطين شهداء كلّهم. لا طبقات في الموت. لكنّ لكلّ شهيد قصّة، ولكلّ عائلة حكاية، ولكلّ اغتيال معنى خاصّاً به يختلف عن المعنى العامّ والمشترك.

جريمة اغتيال أبناء وأحفاد إسماعيل هنية، جريمة بمعنى مختلف. هم أبناء قائد فلسطيني، وللأمر دلالات عدّة، أبرزها:

–  لا يختلف قادة حركة حماس في حياتهم وسلوكيّاتهم عن سائر أفراد الشعب الفلسطيني. يقاتلون معهم وبجانبهم، بأرواحهم وممتلكاتهم.

–  أبناء قادة حماس ليسوا في الخارج. ليسوا بعيدين عن غزة. هم في قلب الحرب وبين أبناء الشعب الفلسطيني يصيبهم ما يصيب الأخيرين.

– سواء اتّفقت مع حماس أو اختلفت، أيّدتها أو عارضتها، أحببت قادتها أو كرهتهم، رأيت في ما تقوم به فائدةً للقضية الفلسطينية أو رأيته ضرراً خالصاً، لا تستطيع إلا أن تخلص إلى أنّها صادقة مع مشروعها، ومنسجمة أفراداً وكوادر وقادة مع ما تطرح من عقيدة وأفكار وحلول للقضية الفلسطينية. وهذا بالطبع لا يلغي حرّية أن يختلف المرء معها عقيدة وتنظيماً ووسائل وتاريخاً وحاضراً ومستقبلاً. وفي هذا لا تنفرد حماس أو قادتها في الأمر. الإسلام الجهادي عموماً كلّه على هذا المنوال.

إسرائيل

قبل هنية، وقبل أشهر، قدّم رئيس كتلة الوفاء للمقاومة ورئيس مكتبها السياسي النائب محمد رعد نجله شهيداً. كان في قلب المعركة بالقرب من الحدود التي تستهدفها إسرائيل كلّ ساعة. كان يقاتل. قبله، قدّم الأمين العامّ للحزب نجله هادي شهيداً، في أيلول 1997. في حماس نفسها قدّم أكثر من قائد فيها أبناءه وعائلته شهداء، وأبرزهم الدكتور خليل الحية والدكتور محمود الزهار، والمهندس عيسى النشار، وغيرهم الكثير. بل إنّ مؤسّس حماس نفسها الشيخ أحمد ياسين استشهد في آذار 2004. كان يعرف أنّه مستهدَف وعلى رأس المطلوبين أمواتاً لإسرائيل. مع ذلك بقي ولم يبخل بروحه في سبيل ما يؤمن به. لم يُبدِ أيٌّ من هؤلاء ندمه. بدوا قانعين بقسمتهم. هم أرادوها.

 يقدّم الفلسطينيون أغلى ما عندهم، مواطنين عاديّين أو قادةً ومسؤولين. الضحايا في فلسطين شهداء كلّهم

عناصر داعش وجبهة النصرة والقاعدة كلّهم على هذا المنوال. يترك الواحد منهم بلاده وأهله وأرضه، ويمضي ليُقتَل في بلاد لا يعرفها ولا تعرفه. أو يعيش مطارَداً ومطلوباً حتى السجن أو الموت. لا شكّ أنّ هذا الأمر يضفي  الكثير من المصداقية على هؤلاء، ويعطي قضيّتهم بريقاً ما، وإن كان لا ينفي عنهم صفة الإرهاب، ولا يبعد عنهم ولا عن أفكارهم و”اجتهاداتهم” سمة الضلال.

الفكر والسّلوك

ما سبق يعيد طرح مسألة الفكر والسلوك واقتران بعضهما ببعض، أو افتراقهما. فإن التقيا عاش صاحبهما مخلّداً لا يمحو ذكره ماحٍ، ولا يطوي قضيّته النسيان. يبقى وتبقى قضيّته على مرّ الأجيال والتاريخ. في طليعة هؤلاء سقراط، الفيلسوف اليوناني الذي تجرّع السمّ رافضاً العودة عن أفكاره وإنكارها. كذلك فعل الحسين في كربلاء. أمّا افتراق الفكر والسلوك فلا ينتج إلا منافقاً، وما أكثر المنافقين في بلادنا التي يحكمها الذين يبعدون أبناءهم عنها، فينشأون بعيداً عن ترابها وهوائها ومشكلاتها، ويتعلّمون في غير مدارسها ويتخرّجون من غير جامعاتها، ويؤسّسون أسرهم وأعمالهم بعيداً عنها.

وإن كان اقتران الفكر والسلوك مفيداً نوعاً ما سياسياً ونفسياً مع العدوّ، إذ يفصح عن إصرار وثبات وصدق في قتاله ومعاداته. كما في حالة هنية.

إقرأ أيضاً: اليسار اللبنانيّ المعطوب… كارل ماركس راجع

تقتل إسرائيل العُجّز والرجال والنساء والأطفال. تقتل الماضي والحاضر والمستقبل. تريد أن تمحو من الوجود فكرة أنّها شعب احتلّ أرضاً ليست له، وطرد أهلها منها. أما آن لها أن تمحو الفكرة من رأسها قبل أن تمحوها من رؤوس الآخرين؟ منذ 75 عاماً وهي تفعل هذا، أما آن لها أن تدرك أنّ القتل ليس الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، بل هو حياة جديدة لها؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…