عن باسكال وهواجس “الحزب” وجعجع: سرقة لكن لكن ولكن…

مدة القراءة 9 د

مفهومٌ جداً أن يأتي ردُ فعل “الحزب” على اغتيال باسكال سليمان، فجّاً بهذا الشكل. فهو يعيش شعور محاصرته، كأنّ حرباً كونية تُخاضُ ضدّه.

ومفهومٌ أكثر أن يتصرّف سمير جعجع وكأنّ الحادثة اغتيالٌ تمهيديٌ له هو بالذات. فهذه طريقُ دير القطارة. منطقة لجوئه الأول وملاذه الأخير. والمغدورُ صهرُ من احتضنه هناك، يوم تخلّى عنه الجميع. بل استهدفوه. فكيف لا يقرأ الجريمة بالسياسة، وهناك ما سبقها؟ وهناك تجارب ماثلة في الوجدان، حافرة في الوعي والجسد؟!

تفاصيلُ كثيرة حسّاسة ودقيقة، تشير فعلاً إلى  حادثة سرقة بقوّة السلاح.

لكنّ السلاحَ سلاح. والقوّة قوّة. ولأنّهما كذلك، تولدُ بينهما ألفُ لكنْ ولكنْ …

 

لا تنتهي لائحة الأدلّة التي تشير إلى أنّ حادثة اغتيال المسؤول القوّاتي، باسكال سليمان، كانت بغرض السرقة:

كلُّ ما يتعلّق بحركتَيْ سيّارتَيْ الشهيد والجناة. الوقائع المادّية والقرائن الحسّية.

ما سبق الاغتيال من محاولة سرقة صباح اليوم نفسه في منطقة صربا موثّق بالفيديو وبشهادة صاحب السيارة في التحقيق.

وصولاً إلى محاولتين أخريين على طريق اعتراض الشهيد سليمان ذاتها.

ثمّ كلّ ما تبع الجريمة البشعة من تتبّع الأجهزة الخلويّة إلى القبض على أحد الجناة في القلمون واعترافه. ثمّ نتائج التحقيقات.

تقريرُ الطبّ الشرعيّ السوري اكتفى بعبارة من 5 كلمات: سبب الوفاة: “ضربة على الرأس بآلة حادّة”.

لكنّ السلطات العسكرية اللبنانية لم تكتفِ طبعاً بذلك. أُجريت كلّ الفحوصات اللازمة على الجثمان. “سكانر” كامل للتحقّق من أيّ ضربات أخرى. كلّ ذلك باطّلاع أربعة متخصّصين من ذوي الشهيد ورفاقه.

ثمّ جاءت اعترافات المسلَّمين من سوريا كاملة دقيقة مطابقة لكلّ الأدلّة.

وإن ما زالت تنتظر تسليم الأجهزة السورية لستّة مطلوبين آخرين. كلّهم لبنانيون فارّون إلى قرية حاويك السورية. يُفترض باستكمال التحقيق معهم أن تُقفَل حلقة العصابة بين مخطِّطٍ ومنفّذ ومُسهِّل ومُشارك وأدوار أخرى.

مفهومٌ جداً أن يأتي ردُ فعل “الحزب” على اغتيال باسكال سليمان، فجّاً بهذا الشكل. فهو يعيش شعور محاصرته، كأنّ حرباً كونية تُخاضُ ضدّه

المنطقة.. معسكر سوري

ثمّ هناك المعطيات المتعلّقة بمنطقة الجريمة. كلّها تزكّي ذلك:

أكثر من دزينة سيّارات سُرقت في هذه المنطقة بالذات.

والأخطر أنّ على مقربة منها “معسكراً” سوريّاً كاملاً في مثلّث كفرحلدا – بساتين العصي – بيت شلالا. آلافٌ من “النازحين” الخارجين عن أيّ نظام أو قانون. أُثيرت قضيّتهم نهاية العام الماضي. غطّاهم يومها مسؤولٌ بلديّ قيل إنّه محميّ من جهة سياسية بترونيّة.

انفجرَ وضعهم لاحقاً مع سكّان المنطقة. ذهب المسؤول البلدي باستقالة شكلية ثم عاد ليكمل فعلياً تغطيته للوضع الشاذ بالتواطؤ مع الجهات السياسية التي تحميه.

السلطاتُ العسكرية حذّرت الجهات الحكومية المختصّة مذّاك: هذا ممرٌّ خطيرٌ يربط بين جرد جبيل فطرابلس، ومن هناك إلى الداخل السوري. كلّ الارتكابات يمكن أن تمرّ من هناك. لا قدرة للجيش على نشر آلاف العناصر في كلّ متر مربع من لبنان. ثمّة مسؤولية على كلّ المؤسّسات الحكومية الأخرى… لا جواب!

هكذا تشير كلّ الأدلّة المادّية والظرفية إلى أنّهم عصابة سرقة سيارات.

قاومهم الشهيد عند اعتراض طريقه. مرّة ثمّ اثنتين. ضربه أحدهم على رأسه… الباقي صار تفاصيل. لأنّ الأهمّ والأغلى أنّ باسكال مات!

هذا هو مسارُ التحقيق الواقعي والوقائعي حول الجريمة. وهو ينتظر طبعاً استكماله.

لكن لكن ولكن…

لا يمكن منعُ تفكير الناس من الذهاب إلى مسارات أخرى. خصوصاً حين تكون مصحوبة بمؤشّراتٍ وسوابق ومعطيات في المنطق، ولو ليس في الواقع.

مسارٌ أوّل، هو احتمال الجريمة المصرفيّة الأبعاد:

كُتب الكثير عن وظيفة الشهيد باسكال سليمان في أحد المصارف. وعن اغتيال زميل سابق له في المصرف نفسه. وفي ظروف غامضة. ولا نتائج حول الجريمة بعد سنوات. وهو ما يكفي لنسج كلّ الاحتمالات.

أكثر من ذلك، اغتيال أنطوان داغر، زميل المغدور سليمان في المصرف المقصود، حصل مطلع حزيران 2020. بعد أشهرٍ قليلة صدرت قراراتٌ عن الخزانة الأميركية، استهدفت بعض المسؤولين اللبنانيين دون سواهم.

جاء اغتيال باسكال سليمان الآن بعد أقلّ من شهر على زيارة وفد الخزانة الأميركية نفسها لبيروت في 11 آذار الماضي، وسط كلام عن إجراءات أميركية جديدة!

قاومهم الشهيد عند اعتراض طريقه. مرّة ثمّ اثنتين. ضربه أحدهم على رأسه… الباقي صار تفاصيل. لأنّ الأهمّ والأغلى أنّ باسكال مات!

ثم إنّ جهاتٍ مطّلعة تشير إلى أنّ المصرف المقصود كان من المؤسّسات القليلة التي سمحت لها تراخيصها المصرفية داخل لبنان وخارجه، بتنفيذ تحويلات مالية بالاتّجاهين، من دون المرور بمحطّات المصرف المركزي وغيره من مصافي التتبّع والرصد. وذلك طوال أعوام. وخصوصاً أثناء الأزمة… هذا على ذمّة المطّلعين.

لا شيء وقائعياً أو حسّياً في ذلك كلّه.

لكنّها معطيات ظرفية تسمح للناس بالربط بين المسألتين. ماذا لو أنّ هناك من نجح بتجنّب العقوبات الأميركية، قبل 4 أعوام بتصفية داغر؟! لمَ لا يكون السيناريو نفسه متكرّراً اليوم؟! أمّا السرقة فمجرّد غطاءٍ لا يعرف به طبعاً منفّذوها. ولا مشغّلوهم ربّما!

ماذا عن الاحتمال السياسي؟

تبقى الحلبة السياسية، وهي الأكثر دقّة وحساسيّة:

أيّاً تكن الوقائع، على أيّ مراقب أن يضع نفسه في موضع الضحيّة. كما في موقع المتّهم في السياسة. ليتمكّن من التفكير في عقل الطرفين وهواجسهما.

“الحزب” متّهمٌ دائمٌ سياسياً. وفي كلّ شيء. لكنْ لماذا جاء ردّ فعله على هذا الشكل الاستفزازي الفجّ؟!

لأنّه في حرب مفتوحة عليه من كلّ الجهات. من أميركا وإسرائيل. ومن أبعدين وقريبين ربّما. مسؤولوه يتساقطون كأنّهم مكشوفون كلّياً. كأنّه مخترَقٌ بالكامل. فيما هو مؤمنٌ أنّه يضحّي من أجل بلاده. يقضي شبابه كلّ يوم. ولا شيء يقوله لأهلهم وناسه.

يواجه مؤامرات ومخطّطات يسمع بها فوق رأسه. من غزّة اليوم التالي إلى تدمير الجنوب واجتياح لبنان.

ثمّ هذه جبيل. حيث له حضورٌ يراوح بين خاصرة رخوة وبين رأس جسر أو حربة أو شوكة.

هي جبيل التي عند كلّ استحقاق، يُفبركون له الروايات حولها. حيناً أنّه أنجز أنفاقها ليعبرَها من جردها إلى ساحلها ويصلَ البقاع بالبحر ويقطع جبل لبنان نصفين. وأحياناً أنّه يمهّد بذلك لمحاصرة قاعدة حامات الجوّية، حيث بضعة مدرّبين أميركيين لخدمة الجيش اللبناني.

فبركاتٌ أُعيد نبشها قبل أسابيع قليلة. فيما هو يُحصي شبابه المتساقطين.

تقريرُ الطبّ الشرعيّ السوري اكتفى بعبارة من 5 كلمات: سبب الوفاة: “ضربة على الرأس بآلة حادّة”

كلّ ذلك يجعل “الحزب” متموضعاً في زاوية المُتجاذَب بين شعورين متناقضين: أنا القويّ الذي لا قوّة توازيه. وأنا المستهدَف المتآمَر عليه المتشكِّك من كلّ ما يتحرّك في السماء وعلى الأرض وتحتها. حتى أقرب حليفٍ له تركه عند كوعِ رئاسة وذهب إلى التشنيع به.

لا يحميه الآن غيرُ وضعٍ لبنانيّ مستقرّ.

فجأة يحصل ما يُنبئ بحرب أهلية. هي مقتله. هي مهلَكه. فكان ردُّ فعله كما كان. أصابَ أم أخطأ.

سمير جعجع… وقطع رأس “صهره”

ثمّ هناك قُبالته سمير جعجع. متّهمٌ هو بمجرّد كونه مستثمراً بالدم؟! ضعوا أنفسكم مكانه، قبل التسرّع بالحكم.

كيف للرجل ألّا يقرأ الجريمة رسالة بالسياسة؟! فلنقدّر هواجسه للحظة:

هذه ليست منطقة عاديّة، حيث سقط باسكال. هي المنطقة التي لجأ إليها سمير جعجع أواخر السبعينيات، يوم أقفل السوري عليه أبواب الشمال. وحاصره بغية التخلّص منه. وقيل يومها بغضِّ نظرٍ “رفاقيّ”، كما من كلّ الأعداء.

لم يكن يومها زعيماً. ولا أمير حرب. ولا لاعباً سياسياً. كان ضحيّة من ضحايا لُعب الكبار. منذ ترك مستشفاه قبل أشهر من تخرّجه، حتى زُجّ في إهدن ودير القمر وغيرهما… هذه المنطقة هي معقله. هي عرينه الأوّل. هي حصنه الحصين.

ثمّ باسكال ليس غريباً عن هذه الرمزية بالذات. والد زوجته رفيقٌ عتيق. من عُمر صخور القطارة وديرها. أحد الذين احتضنوا جعجع هناك. يوم كان مجرّد ثائر مضطهَد لاجئ! هكذا يفكّر الرجل على الأقلّ.

هذه ليست منطقة عاديّة، حيث سقط باسكال. هي المنطقة التي لجأ إليها سمير جعجع أواخر السبعينيات، يوم أقفل السوري عليه أبواب الشمال

أنْ يُقتل صهرُ يوسف أديب قرب دير القطارة، أيّاً كانت الوقائع والأدلّة والقرائن… مسألة يقرأها جعجع رسالة سياسية حتماً: “إنّنا قادرون على قطع أيّ رأس قربك، وفي قلب دارك. أو حتى في غرفة نومك”. هي أكثر دلالة رمزية ربّما، من إطلاق النار على معراب.

ثمّ هناك رمزية الاغتيال الثانية، إذ يأتي ضمن سلسلة: الياس الحصروني. باسكال سليمان. من التالي؟!

تعود الصورة فوراً إلى ذاكرة جعجع: بداية التسعينيات. دخل الجيش السوري المناطق كلّها. بدأ يحضّر لسحل كلّ شيء. سقط إيلي ضو في كفرشيما. سقط نديم عبد النور في الأشرفية. اختفى بطرس خوند من سنّ الفيل… بعد أقلّ من سنتين وقع الانفجار الكبير. قُطعَ رأس جعجع شخصيّاً.

ماذا لو كان هناك من يخطّط لتكرار المأساة؟!

كيف؟

بأيّ سيناريو عنفيٍّ كان. بجرّه إلى حربٍ مفتعلة مع السوريين، بعد الغدر بشابٍّ في بشرّي. أو باستدراجه إلى فتنة أكثر خبثاً مع “حلفائه” السُّنّة. بسبب “نربيش وبركة ثلج” في القرنة السوداء. أو بسرقة سيارة، تُحوّلها ردود الفعل المتقابلة إلى “ميني بوسطة”، عشيّة الذكرى الـ49 على عين الرمّانة، حيث عاش جعجع وعرف وشهد.

هذه هي هواجس الطرفين. وهي في مكانٍ ما، منطقية ومشروعة. فلماذا لا يفهمُها الطرفان؟

رحم الله صائب سلام وقاعدته الثنائية الذهبية عن “التفهّم والتفاهم”. قاعدة شرطُها أن تكون نتيجتها النهائية، تسليماً إجماعياً بأنّ ما يُنقذ كلّ المهجوسين، وما يُطفئ كلّ الهواجس، وما يحمي الجميع ويطمئن الجميع، كلمة واحدة: دولة.

دولة أوّلُها رئيسٌ سيّد. وآخرُها سيادة كاملة.

البعض يبدو جاهزاً. البعض الآخر متريّث، لأولويّاتٍ مختلفة. بعضٌ ثالث ينتظر وحياً ما. بعضٌ رابع كامنٌ للحرتقة، لحسابات شخص أو أشخاص.

إقرأ أيضاً: باسكال سليمان: أرقام ووثائق… تُثبِت أنّها ليست سرقة

الخلاصة أنّ كلّ من لا يذهب إلى تلك القاعدة ومؤدّاها الدستوري الآن، سيكون متّهماً باغتيال باسكال. مرّةً واثنتين. لا بل باغتيال شعب ووطن. مرّةً ومرّات.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@JeanAziz1

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…