أين عرب 48 من العدوان على غزّة؟

مدة القراءة 9 د

“هبّة الكرامة” التي ألهبت حيفا واللد وعكا وقرى النقب عام 2021 أثناء انتفاضة حيّ الشيخ جرّاح المقدسيّ، أظهرت الاحتقان الكبير في المناطق المحتلّة عام 1948، وبدّدت الوهم بأنّ الهويّة الوطنية لـ”عرب 48″ يمكن أن تكون موضع شكّ أو مقايضة، وأسّست بترابطها الوثيق مع ثورة القدس وانتفاضة الضفّة الغربية وغضب غزة، لما يمكن وصفه حينها بأنّه محطة مفصليّة تقطع مع ما سبقها وتؤسّس لما بعدها. ذلك أنّها المرّة الأولى التي ظهر فيها الشعب الفلسطيني موحّداً في القطاع والضفّة والداخل والمنافي، على الرغم من كلّ محاولات شقّ صفوفه وتجزئة برنامجه النضالي. في تلك الهبّة، شطب الفلسطينيون “الخطّ الأخضر” وخرائط أوسلو وبقيّة خطوط التجزئة والكانتونات المرسومة سلفاً في الغرف السود.

أسئلة لا يمكن تجاوزها

اليوم، بعد ستّة أشهر على العدوان على غزة المثخنة بالجراح والدماء، ثمّة أربعة أسئلة:

1- أين هم عرب 48 ممّا يتعرّض له أنسباؤهم اللاجئون من عمليات إبادة في مخيّمات خان يونس والبريج وجباليا والشاطىء والنصيرات في القطاع، ومخيّمات جنين وشعفاط وبلاطة وعسكر في الضفة الغربية؟

2- هل نجحت الإجراءات العقابية القاسية التي اتّخذها عتاة الفاشية الجديدة في إسرائيل في لجمهم وكبت روحهم الوطنية مجدّداً؟

3- هل تغلّب مفهوم “مواطنتهم” الشكليّ في الدولة العبرية المتمسّكة بصفة كونها يهودية فقط، على ارتباطهم بشعبهم الأمّ. أم سيدفعهم الإصرار الإسرائيلي على التعامل معهم كفلسطينيين في لحظة الشدّة إلى الالتحام بشكل طبيعي بشعبهم الذي يتعرّض للإبادة في القطاع وأجزاء من الضفة؟

4- هل تمكّنت إسرائيل من اختراق جبهتهم السياسية الداخلية، وفرّقت قواهم الحزبية بعضها عن بعض. فاختلفت مصالحهم وأولويّاتهم ومواقفهم وخفت صوتهم في لحظة مفصلية تاريخية. قد يترتّب في ضوئها تحديد مصيرهم بما في ذلك وجودهم؟

تضع إسرائيل ساحة الداخل المحتلّ في المكانة الأمنيّة الأخطر بين الساحات الأربع التي يمكن أن تواجهها، وتقدّمها أحياناً على الضفة والقطاع والخارج

قلق إسرائيل من الداخل

تضع إسرائيل ساحة الداخل المحتلّ في المكانة الأمنيّة الأخطر بين الساحات الأربع التي يمكن أن تواجهها، وتقدّمها أحياناً على الضفة والقطاع والخارج، لأنّها تقع في قلبها وتشارك في صلب نسيجها السكّاني ولا يمكن تسييجها بالأسوار والجدران أو عزلها كما فعلت في المناطق الأخرى. وتعاملت مع عرب 48 على أنّهم حالة أمنيّة وطابور خامس وخطر استراتيجي. يقول الوزير الإسرائيلي نير بركات: “إذا ثار ضدّنا 1 في المئة فقط من السكّان العرب (الذين يتجاوز عددهم مليونين)، فإنّ ذلك يعني 20 ألف شخص، وسوف يصلون إلى كلّ مكان في البلاد”. في إشارة إلى أنّ ذلك قد يؤدّي إلى حالة انفلات تصبح أكثر خطراً في حالة تطوّر الصراع على الجبهتين الجنوبية والشمالية مع فوضى داخلية.

عرب 48

ولمواجهة أيّ انفلات من هذا النوع عمدت إسرائيل بعد “انتفاضة الكرامة” إلى تشريع جملة من القوانين المتشدّدة بهدف التضييق على عرب 48. منذ “طوفان الأقصى” يتعرّض فلسطينيّو الداخل لسياسة الترهيب والترويع بُغية منعهم من إسماع صرخة الغضب والتظاهر والاحتجاج ضدّ الحرب أو التضامن مع الفلسطينيين في غزة.

قال المفتّش العامّ للشرطة يعقوب شبطاي: “أيّ شخص يريد أن يكون مواطناً في دولة إسرائيل فأهلاً وسهلاً، وأيّ شخص يريد التماهي مع غزة فسأضعه الآن في الحافلات المتّجهة إلى هناك. نحن في حالة حرب ولن نتسامح أبداً مع أيّ حادث، ولا يوجد تصريح للقيام بالاحتجاجات. وكلّ من يتمّ توقيفه سنفعّل كلّ المكاتب الحكومية ضدّه كما نفعل مع المجرمين”.

حكم عسكريّ غير معلن

شهد الداخل الفلسطيني منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حالة حكم عسكري غير معلنة رسمياً، بحيث بدا ذلك واضحاً من خلال:

1ـ اعتبار أنّ الدولة في حالة حرب وحالة طوارئ، وهو ما معناه توظيف القوانين الانتدابية تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”.

2 ـ تشريع قوانين خصيصاً لملاحقة فلسطينيّي الداخل ومحاكمتهم وإنزال أقصى العقوبات بهم لمجرّد تضامنهم مع أبناء شعبهم الفلسطيني.

 منذ “طوفان الأقصى” يتعرّض فلسطينيّو الداخل لسياسة الترهيب والترويع بُغية منعهم من إسماع صرخة الغضب والتظاهر والاحتجاج ضدّ الحرب

3 ـ ملاحقات أمنيّة لطلّاب الجامعات والمدارس والموظّفين بالمؤسّسات الحكومية والقطاعات الخاصة، وتعرّض الكثيرين للفصل من الدراسة والعمل.

4 ـ التلويح بسحب الجنسية من فلسطينيّي الداخل الذين يدعمون المقاومة الفلسطينية.

5 ـ التعرّض لتهديدات يومية، سواء من المجموعات اليهودية المتطرّفة أو من المؤسّسة الإسرائيلية. ونشرت مجموعة “إسرائيلية”، تطلق على نفسها اسم “صيّادي النازيّين”، قائمة بأسماء ناشطين وصورهم وعناوين بيوتهم ليسهل الوصول إليهم لقتلهم.

6 ـ ملاحقات أمنيّة وحملة اعتقالات على خلفيّة منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، منها ما يحوي آيات قرآنية وأدعية نبويّة فُسّرت على أنّها تماهٍ مع المقاومة وإسناد للفلسطينيين بغزة وليست مناهضة للحرب.

7 ـ منع الحراك السياسي والشعبي والمسيرات المندّدة بالعدوان ومعارضة الحرب.

هدفت هذه الإجراءات إلى تقليل التفاعل مع القضايا الوطنية، وإبعاد ساحة الداخل المحتلّ عن باقي الساحات الفلسطينية، والعمل على تجزئة الشعب الفلسطيني. وعمّقت المواجهة القائمة أصلاً بين مظاهر “الفلسطنة” التي تؤكّد أهمّية الانتماء الوطني والالتحام مع الشعب الفلسطيني وقضيّته وبين مشاريع الاندماج و”الأسرلة” التي تدعو إلى الانكفاء على الذات وتوسيع الوعي بقضيّة الحقوق المدنية.

لم تكن القوى السياسية للأقلّية العربية في إسرائيل، ولا سيما تلك الممثّلة في الكنيست، على موقف واحد ممّا يجري في غزة. وهو ما عمّق التباينات بينها، وأظهرها قوى خارج الحدث المفصليّ الأهمّ في تاريخ الصراع، أو عديمة التأثير تجاهه. على الرغم من انعكاساته المباشرة على التفاصيل اليومية للمجموعة العربية خلف الخطّ الأخضر، لا بل على مصيرها السياسي برمّته.

ولمواجهة أيّ انفلات من هذا النوع عمدت إسرائيل بعد “انتفاضة الكرامة” إلى تشريع جملة من القوانين المتشدّدة بهدف التضييق على عرب 48

تعاملت المؤسَّسة الإسرائيليّة مع المواطنين الفلسطينيّين على أنّهم عدوّ وساحة حرب محتمَلة. بدأت بتنفيذ سياسات، لكنّ الحزب الشيوعي والجبهة التقدّمية كانا الوحيدين اللذين ثابرا على تنظيم احتجاجات ميدانية في إطار الشراكة العربيّة اليهوديّة ضدّ الحرب وضدّ قتل المدنيين من الجانبين وضدّ الفاشيّة الآخذة في الانتشار في المجتمع الإسرائيلي وتحميل حكومة اليمين الإسرائيلية مسؤولية الأحداث من دون التطرّق إلى الإجماع الشعبي الإسرائيلي المؤيّد للإبادة الجارية في القطاع. لكنّهما لم يتطرّقا إلى التغيّرات العميقة التي جاءت بها أحداث السابع من أكتوبر والحرب على غزّة، أو إلى تفريغ المواطَنة الممنوحة للمواطنين العرب من مضمونها السياسيّ والقانونيّ.

أمّا “التجمُّع الوطني الديمقراطي” فوصف ما يجري في غزة بالإبادة وبأنّها فشل للاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع القضية الفلسطينية، وطالب بضرورة إعادة تعريف سؤال المواطَنة ومعانيها ومكانة المجتمع الفلسطيني والحالة السياسيّة عامّة في ظلّ التحوّلات الحاليّة. وشدّد على استحالة فصل قضايا المواطنين العرب المعيشية والمدنية عن القضية الوطنية والقومية وضرورة إنهاء الاحتلال. لكن لم تنزل إلى الميدان ولم تدعُ إلى أيّ فعّاليّات مناهضة للإبادة والعدوان.

بقيت “القائمة العربية الموحَّدة” متمسّكة بوجهتها الرامية إلى التشديد على الأبعاد المدنيّة المعيشيّة لمطالب عرب 48 في إسرائيل، والعمل تحت سقف سياسي مقبول على الإجماع الصهيونيّ. ووصف زعيمها النائب منصور عبّاس “طوفان الأقصى” بأنّه “خطأ كبير وجريمة ضدّ المدنيّين (..) أدخلت الشعب الفلسطينيّ كلّه في مَخاطر كبيرة يدفع أطفال غزّة ثمنها الآن”. وحذّر الشبابَ والطلّاب من أيّ تعبير عن الرأي منعاً للتعرُّض للعقاب. كذلك فعل النائب أيمن عودة الذي صبّ جامّ غضبه على “طوفان الأقصى”. بمعنى آخر فإنّ “القائمة” عبّرت عن “تفهّمها” لسياسة الترهيب التي تنتهجها حكومة نتنياهو ولم تستنكرها. وبلغ بها الأمر حدَّ مطالَبة النائبة في القائمة نفسها، إيمان ياسين خطيب، بأن تقدّم استقالتها، وذلك على خلفيّة تصريحاتها في مقابلة تلفزيونيّة أَجْرَتْها معها قناة الكنيست التلفزيونيّة قالت فيها إنّها “لم تشاهد الفيديو الذي بثّه الكنيست، لكنّها حسب ما سمعت لم يكن هناك ذبح أطفال ولا اغتصاب نساء”.

بقيت “القائمة العربية الموحَّدة” متمسّكة بوجهتها الرامية إلى التشديد على الأبعاد المدنيّة المعيشيّة لمطالب عرب 48 في إسرائيل

على عكس “القائمة”، قرنت لجنة المتابعة العليا برئاسة محمد بركة بين “طوفان الأقصى” والسياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلّة والاحتلال الدائم وحصار غزة، محمّلة الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عمّا جرى. ووضعت الحرب على غزّة في سياقها الأوسع، ألا وهو الحرب المستمرّة على الشعب الفلسطينيّ، واعتبرتها جزءاً من أدوات الاحتلال والحصار. ولم ترَ فيها ردّ فعل على عمليّة طوفان الأقصى فحسب. لكنّ اللجنة لم تنجح أيضاً في كسر قواعد اللعبة التي فرضتها المؤسَّسة الأمنيّة ولم تترجم موقفها بالممارَسات والخطوات الميدانيّة.

هشاشة المواطنة الإسرائيليّة

عكست هذه المواقفُ العقليّةَ السياسية نفسها السائدة منذ عقود في وسط الفاعلين بين عرب الداخل التي لم تأخذ في الاعتبار التطوّرات الهائلة في محيطها. لا بل أظهرت تراجُعاً في مكانة القضيّة القوميّة الوطنيّة والاحتلال في العمل السياسيّ لدى الأحزاب العربيّة في إسرائيل، وتراجُعَ مكانة هذه المحاور في وعي الناس، وازديادَ اهتمام الناس بالقضايا اليوميّة المعيشيّة مثل الجريمة والعنف والسكن والتعليم والأحوال المعيشية.

غاب عن بال بعض هؤلاء أنّ “المواطنة” المعطاة لهم تبقى شكليّة ولا تؤهّلهم أن يكونوا مواطنين يتمتّعون بكلّ الحقوق والواجبات المعطاة لليهود. إذ لا يمكن الحديث عن مساواة في دولة فصل عنصري، ولا يمكن مقارنة الحقوق والواجبات في دولة تتّخذ الفوقيّة اليهودية ومحو كلّ ما هو فلسطيني أساس وجودها، وتميّز بين مجموعة وأخرى على أساس عرقيّ، وتسلب أصحاب الأرض أرضهم وحياتهم وحقّهم في العيش فيها.

إقرأ أيضاً: اجتياح رفح: الخلاف “التكتيكي” بين بايدن ونتنياهو

بيّنت السياسات الإسرائيلية العدائية ضدّ فلسطينيّي 48، هشاشة المواطنة والجنسية الإسرائيليّتين الممنوحتين لهم اللتين باتتا رهينتين وتخضعان لدوافع المؤسّسة الإسرائيلية والاحتياجات الأمنيّة والإجماع الصهيوني وشروطه. فالمؤسسة العسكرية كانت ولا تزال، واليوم أكثر من ذي قبل. تتعامل معهم فقط من منظور أمنيّ وعسكري، وأدرجتهم في خانة الأعداء المحتملين في ظلّ حديث نتنياهو عن عدوانه: “حرب وجوديّة وحرب على البيت”.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…