الدولار المصرفي بين الخبث واللبس

مدة القراءة 7 د

أيقظت الأعياد آلام أصحاب الودائع بالدولار المحلّي، واستوطن الحزن في نفوسهم. فالضبابيّة المتعمّدة حول سعر صرف الدولار المصرفي هي أداء غير مسؤول يفتقر إلى المناقبية المهنية. وتقاذف التهم حول من هي السلطة صاحبة الاختصاص التي يجب أن تقع على عاتقها مسؤولية تحديد سعر صرف الدولار المصرفي هو نوع من العهر الدستوري. ويجب أن يتوقّف.

 

 

الصراع حول سعر صرف الدولار المصرفي هو مثل آخر من الأمثال التي تدلّ على أداء وإنتاجية الطبقة السياسية. وهو جزء من نهج توزيع الأدوار للتهرّب من المسؤولية، وللمحافظة على المكاسب السياسية. ولإبقاء المشهد النقدي على ما هو عليه. لأنّ في هذا الجمود المُتَعَمَّد فائضاً من الإفادة لأصحاب الشأن على حساب المواطن. نعم على حساب المواطن وليس المودع فقط.

أطلّ علينا الدكتور وسيم منصوري، حاكم مصرف لبنان بصلاحياته الكاملة وفق قانون النقد والتسليف، في الثاني من شهر شباط 2024 ليبشّرنا بتوسيع رقعة الاستفادة لأصحاب الودائع بالدولار المحلّي لتشمل مجموعة جديدة من المودعين. ومن يستوفي الشروط التعجيزية والخنفشارية لهذا التعميم يستحقّ أو يحقّ له أن يسحب شهرياً 150 دولاراً أميركياً من حسابه.

استهدفت المبادرة أصحاب الحسابات المحدودة بأرصدتها. لإعطاء كلّ واحد منهم جرعة استهلاك قد يجدها مباركة ومرحّباً بها.

مبادرة مع وقف التنفيذ

من الواضح أنّ من قام بصياغة هذا التعميم حول الدولار المصرفي يعاني من متلازمة الاستبعاد الاقتصادي. لأنّه ليس على علم بالقدرة الشرائية للـ150 دولاراً أميركياً. على كلّ حال كانت مبادرة طيّبة من المجلس المركزي لمصرف لبنان. ولكن مع وقف التنفيذ وتفاقم التداعيات:

– حتى اليوم ما زال المودع ينتظر الفرج، كلٌّ من مصرفه، حتى تنطلق عجلة الامتثال لأحكام هذا التعميم، ولجنة الرقابة على المصارف تعاني من الاستبعاد المؤسّساتي بسبب صمتها عن كلّ هذه الانتهاكات من قبل المصارف.

الصراع حول سعر صرف الدولار المصرفي هو مثل آخر من الأمثال التي تدلّ على أداء وإنتاجية الطبقة السياسية

– هذا التعميم أغرق المصارف في ضبابية، حذار أن تكون متعمّدة! أوقفت المصارف السحوبات من أرصدة الحسابات بالدولار المصرفي (المحلّي) على سعر الـ 15,000 ليرة للدولار الواحد. وهو اليوم يُعتمد كسعر صرف رسمي للدولار. بعد صدور التعميم الأساسي لمصرف لبنان الذي يحمل الرقم 167، أصبح سعر صرف الدولار المصرفي (المحلّي) 89,500 ليرة. هذا التعميم يُلزم المصرف التجاري باعتماد هذا السعر في تقويم مطلوباته النقدية، أي الودائع، بالعملات الأجنبية.

 

نصّ التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 167:

“نودعكم ربطاً نسخة عن القرار الأساسي رقم 13612 تاريخ 2/2/2024 المتعلّق بأصول تحويل الموجودات والمطلوبات المحرّرة بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية.

إنّ حاكم مصرف لبنان بالإنابة،

بناء على قانون النقد والتسليف سيما الموادّ 70 و146 و174 منه،

وبناء على القانون رقم 67/28 تاريخ 9/5/1967 المتعلّق بتعديل وإكمال التشريع المتعلّق بالمصارف وإنشاء مؤسّسة مختلطة لضمان الودائع المصرفية سيما المادة 3 منه،

بناء على قرار وزارة المالية رقم 1/10/ج تاريخ 9/4/1984 المتعلّق بالتصميم المحاسبي للمصارف والمؤسّسات المالية سيما الملحق رقم (4) (Financial Reporting Standards – IFRS)،

وبناء على قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان المتعلّق في جلسته المنعقدة بتاريخ 2/2/2024،

يقرّر ما يلي: على المصارف والمؤسّسات المالية كافّة، عند إعداد الوضعيات المالية، مراعاة مبادئ المعيار الدولي للمحاسبة (IAS 21) وتحويل حسابات الموجودات والمطلوبات النقدية (Monetary Assets and Liabilities) المحرّرة بالعملات الأجنبية والموجودات غير النقدية (Non-Monetary Assets) المصنّفة بالقيمة العادلة (Fair Value) أو المُقيّمة وفقاً لمنهجية الحقوق الصافية (Equity Method) إلى ما يوازي قيمتها بالليرة اللبنانية على أساس السعر المعلن على المنصّة الإلكترونية المعتمدة من مصرف لبنان بتاريخ إعداد البيانات المالية.

يُعمل بهذا القرار اعتباراً من الوضعية الموقوفة بتاريخ 31/1/2024.

الواضح أنّ من قام بصياغة التعميم حول الدولار المصرفي يعاني من متلازمة الاستبعاد الاقتصادي

ماذا يقول الذكاء الاصطناعي؟

وبما أنّني لا أفقه بالقانون، اخترت الاستعانة بمنصّة يشهد الجميع لذكائها في التحليل والاستنتاج. ذهبت إلى الذكاء الصناعي (ChatGPT 4) وأعطيته نصّ التعميم 167، وسألته عمّا يهدف إليه هذا التعميم. وهذا هو جوابه:

“هذا النصّ يتعلّق بقرار من حاكم مصرف لبنان بالإنابة، يتعلّق بتحديد سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في المصارف التجارية اللبنانية. دعني أقوم بتحليل النصّ لفهم مضمون القرار:

1- تتمّ الإشارة إلى القوانين والتشريعات التي يستند إليها القرار، مثل قانون النقد والتسليف وقانون إنشاء المؤسسة المختلطة لضمان الودائع المصرفية وغيرها.

2- تتمّ الإشارة إلى أنّه عند إعداد الوضعيات المالية، يجب على المصارف والمؤسّسات المالية مراعاة مبادئ المعيار الدولي للمحاسبة وتحويل الحسابات المالية المحرّرة بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية بناءً على السعر المعلن من قبل مصرف لبنان على المنصة الإلكترونية المعتمدة (منصّة صيرفة).

3- يتمّ تحديد تاريخ بدء العمل بهذا القرار، وهو تاريخ الوضعية الموقوفة بتاريخ 31/1/2024.

بناءً على هذا التحليل، يبدو أنّ القرار يهدف إلى توحيد وتنظيم سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في المصارف التجارية اللبنانية وتوفير أساس موحّد لتحويل الحسابات المالية المحرّرة بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية”.

حتى اليوم ما زال المودع ينتظر الفرج، كلٌّ من مصرفه، حتى تنطلق عجلة الامتثال لأحكام هذا التعميم

أنا أوافق جدّاً على هذه القراءة لأنّ هذا كان رأيي أنا بعد قراءة التعميم عند صدوره. وأصابني العجب عندما سمعت قراءة رجال الحكم. فهم يقولون إنّ عليهم العمل على تحديد سعر صرف الدولار المصرفي!

نجح المجلس المركزي في توحيد سعر صرف الدولار، وسارعت مكوّنات السلطة الحاكمة لإفشاله. وهذا يطرح السؤال: من هي الجهة وراء إفشال توحيد سعر الصرف؟ هل هي محاولة لإطفاء الودائع بالدولار المحلّي “على الرخيص”؟ أو مكوّنات القطاع الخاص تريد الإبقاء على دولار الـ 15,000 ليرة بسبب تداعياته على بعض الرسوم و/أو الضرائب؟

أيّها الحاكم: احكم

ما هو المطلوب اليوم لتمكين المصارف من تأمين السحوبات من الحسابات المكوّنة بالدولار المصرفي (المحلّي)؟

بعدما أصبح سعر صرف الدولار واضحاً بموجب تعميم تحصّن بكلّ القوانين ذات الصلة، على مصرف لبنان تأمين السيولة بالليرة اللبنانية للمصارف بشكل لا يدفع باتجاه إغراق السوق المحلّي بالأوراق النقدية اللبنانية. وذلك لتفادي المضاربة ومنع عودة الاضطرابات لسعر الصرف في سوق القطع الأجنبي.

أفضل الخيارات يكون في تأمين الأرضية الرقابية والقانونية لتفعيل عودة العمل بوسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي.

إقرأ أيضاً: الموازنة: المجلس الدستوري علّق 9 مواد… فهل يعلّقها كلّها؟

صلاحيات حاكم مصرف لبنان تسمح له بتحديد سقف السحوبات من أرصدة الحسابات بالدولار المصرفي (المحلّي)، كما فعل سلفه رياض سلامة، بوجود وسيم منصوري وفريق عمله، في موادّ التعميم الأساسي الذي يحمل الرقم 151. أنت الحاكم بموجب القانون، فبالله عليك “احكم”.

*خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…