الأصيل الأميركي يلغي الوكيل الفرنسي؟

مدة القراءة 8 د

تواجه السياسة الخارجية الفرنسية سلسلة من الإشكاليات المتقدّمة، لا تبدأ في الساحل الإفريقي ولا تنتهي في لبنان. يعاني التفكير الاستراتيجي الفرنسي نوعاً من الركود الإيجابي في لبنان، وجموداً وانكفاء في الساحل الإفريقي.

إخفاقات في السياسة الخارجيّة الفرنسية

يشير مصدر فرنسي في مجلس الشيوخ، يتحفّظ عن ذكر اسمه، إلى وجود ترابط وتشابك في تنحية “برنار إيمييه” الدبلوماسي الفرنسي والسفير الأسبق في لبنان، عن منصب مدير المخابرات الخارجية الذي كان يشغله، والإخفاقات في السياسة الخارجية الفرنسية وترد قرار التنحية إلى سببين:

1- الفشل الذي أصاب المخابرات الخارجية الفرنسية، إذ إنّها لم تنجح في تجميع داتا المعلومات، واستباق الأحداث، وتحويز واستدلال، واكتشاف كتلة الانقلابات التي وقعت في إفريقيا. عجزت المخابرات الفرنسية الخارجية عن تدارك السيناريوهات المتواترة. فشلت في اللحاق بها. نتج عن هذه المشهديّات انحسار في نفوذ فرنسا، وضمور في دورها التاريخي.

2- المراوحة والفشل في طريقة التعامل مع الأزمة اللبنانية (الاقتصادية والدستورية). وقد شكّل “بيرنار إيمييه” آنذاك العنصر الثالث من الفريق الدبلوماسي الثلاثي الأبعاد الممسك بإدارة الأزمة اللبنانية، والمؤلّف حينها من باتريك دوريل، إيمانويل بون، وبرنار إيمييه. إذ سبّب حراكهم الابتعاد الباريسي عن السياسة الخارجية الفرنسية. في خروج مشهود عن مبدأ التوازنات التقليدية ومسلّمات الإجماع، خاصة مع طرح اسم الوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، بحجّة التسوية السريعة وضياع المعارضة. ثمّ أتى جان إيف لودريان المبعوث الرئاسي الفرنسي الذي أعاد أصل الحلّ إلى جوهر البيان الثلاثي.

تنتظر الإدارة الفرنسية من مدير المخابرات الخارجية الجديد نيكولا ليرنر، الذي كان مديراً للمخابرات الداخلية، إيجابيات حقيقية على عدّة أصعدة:

1- حماية الفرنسيين في الظلّ.

2- تمكين الحكومة الفرنسية من الوصول إلى المعلومات والتحليلات التي تساعدها على فهم أعمق للوقائع.

3- تدارك أشمل في حلّ الأزمات بطريقة ملائمة للإجماع المؤسّساتي المتوازن محلّياً والمستقرّ دوليّاً.

تواجه السياسة الخارجية الفرنسية سلسلة من الإشكاليات المتقدّمة، لا تبدأ في الساحل الإفريقي ولا تنتهي في لبنان

عقدة القوّة الناعمة

تسعى الإدارة الفرنسية إلى ترميم قوّتها الناعمة، وتبتغي العمل على استعادة ما فقدته في مناطقها الاستراتيجية الباريسية المهمّة خارج الحدود، من لبنان إلى شمال إفريقيا. تحاول ترميم نفوذها في إفريقيا، مع تصاعد حدّة منافستها من عدّة دول آخذة في توسيع وجودها مثل الصين وروسيا وإيران وتركيا. هنالك أولويّة فرنسية متمثّلة في الابتعاد قدر الإمكان عن سياسة الازدواجية في المعايير في التعاطي مع الأحداث المختلفة والمتسلسلة، من الانقلابات الإفريقية إلى الأزمات اللبنانية، مع اعتماد صريح أكثر على القانون الدولي ومبدأ احترام الدساتير الوطنية.

يتابع المصدر الفرنسي في توصيفه الأحداث الإفريقية، فيعزو تفصيلياً بطء الإدارة الفرنسية في الاستجابة لمتغيّرات الأمور الوجودية في إفريقيا إلى سبب أساسي هو تسارع وتيرة كلّ الأحداث المشهودة في الفترة الأخيرة. اتّبعت المجموعات الفرنسية الحاكمة، ضمن أسلوب تبديل النهج في السياسة الخارجية الفرنسية، الخطاب الفرنسي الذي تحدّث عن “عهد جديد في العلاقة الفرنسية الإفريقية”، في حين كان التنفيذ العملي “صفريّ النشاط”. طغى الجانب الكلامي والخطابي على أيّ واقع عمليّ ملموس في إفريقيا. كان بعيداً عن التغيير في القارّة السمراء. فلولا الحاجة المادّية والاقتصادية، والفوضى السياسية، والازدواجية في المعايير، لما وقعت هذه الانقلابات والأحداث.

السياسة الخارجية الفرنسية

منذ انتهاء فترة ولاية الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك في عام 2007، تكابد الإدارات الفرنسية المتعاقبة الملمّات نتيجة عدّة أسباب أدّت إلى تراجع دور وفعّالية قوّتها الناعمة في الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا. من أبرزها:

1- تعاظم القوة الأنغلوسكسونية العالمية، التي تنتهج مبدأ فلسفة الإجراء السياسي وفعّالية التطبيق العملي الاتّفاقي.

2- تقدّم مجموعات من القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية، تركيا وإيران، وانفتاح الصين.

اتّبعت المجموعات الفرنسية الحاكمة، ضمن أسلوب تبديل النهج في السياسة الخارجية الفرنسية، الخطاب الفرنسي الذي تحدّث عن “عهد جديد في العلاقة الفرنسية الإفريقية”

ساهمت هذه العوامل في إضعاف دور الإدارة الفرنسية كوسيط دائم ومقبول في حلّ أزمات المنطقة. غاب الدور الفرنسي المعروف في الوساطة الدبلوماسية المتوازنة. حلّ محلّه الدور الأميركي. أدخل هذا الواقع المنطقة في ضبابية الحلول ونهائيّتها، بسبب تراجع ترتيب منطقة الشرق الأوسط على سلّم الأولويات الأميركية. إلا أنّ حرب غزة أعادت خلط كلّ الأوراق. وهو ما أدار محرّكات التنافس الجوهري بين الإدارتين الفرنسية والأميركية، وخاصة في لبنان بعد أحداث 7 تشرين الأول.

 

اختلاف في الرؤيتين الفرنسيّة والأميركيّة

تريد فرنسا بشكل سريع فصل الساحة اللبنانية عمّا يدور في داخل فلسطين المحتلّة. تعمل على مساعدة لبنان في أزمته الرئاسية والمؤسّساتية، على غرار مصر التي أجرت أخيراً انتخابات رئاسية. فيما تنتهج أميركا في هذا الخصوص سياسة الخطوة بخطوة، من أجل الوصول إلى تسوية ما. هي إلى الآن غير محدّدة، لكنّها مقرونة حتماً في السياسة بحرب غزة.

تقتنع الإدارة الأميركية بفلسفة قواعد الاشتباك. وعلى الرغم من أنّها غير منضبطة وتشكّل خرقاً للقانون الدولي وتفريغاً للقرارات الدولية، إلا أنّها جنّبت المنطقة من وجهة نظرها اندلاع حرب شاملة، وبالتالي حصول المؤكّد الاستراتيجي من جهة المواجهة الحتمية. لذلك لا ضير لدى الأميركيين من مناوشات محدودة لا ترتقي إلى مستوى المعركة المفتوحة على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلّة. وتشكّل هذه الجبهة ضغطاً مرناً على فريق الممانعة للقبول بالتسويات المطروحة إقليمياً.

يشير مصدر فرنسي في مجلس الشيوخ، يتحفّظ عن ذكر اسمه، إلى وجود ترابط وتشابك في تنحية “برنار إيمييه” الدبلوماسي الفرنسي والسفير الأسبق في لبنان

يخدم بقاء هذه الجبهة مشتعلة اللاعبين الأصليّين الأميركي والإيراني الممسكين بأطراف خيط اللعبة، واللذين يجعلان منها ورقة استثمارية مزدوجة إضافية على طاولة المفاوضات الإيرانية – الأميركية المنعقدة حالياً في الكواليس القطرية والعُمانية. يأتي ربط لبنان بالمنطقة، سواء من وجهة النظر الأميركية المنادية بفكرة توحيد التسويات والاتفاقيات، أو حتى من وجهة النظر الإيرانية المدافعة عن وليدتها “وحدة الساحات وتشابك الأذرع”، لصالحهما فقط. إذ جعل منهما طرفين أساسيَّين في حلّ وربط كلّ الأمور من خلال موازين معيّنة من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط. وذلك إلى جانب عزل إضافي اتّفاقي لفرنسا، التي تحوّلت إلى وكيلة على الرغم من أنّها أصل الوساطة بخصوص لبنان. فأميركا تمون على الكيان الإسرائيلي، وإيران تُعتبر العقل المدبّر ومحور وحدة الساحة وعرّابة الحزب في لبنان.

لماذا تسلّف إيران الوكيل (فرنسا) فيما تتحاور مع الأصيل (أميركا)، حتى لو كانت كلّ أفكار الحلول ومسوّدات النقاش صادرة من الإدارة الفرنسية؟

تتوافق كلّ من إيران وأميركا على إضعاف الدور الفرنسي من دون أن تفشلاه. فما تقدر عليه أميركا فلن تفعله فرنسا. وما تنتظره إيران ليس في حوزة فرنسا.

يعاني التفكير الاستراتيجي الفرنسي نوعاً من الركود الإيجابي في لبنان، وجموداً وانكفاء في الساحل الإفريقي

برزت كلّ من روسيا وإيران كفائزتين كبيرتين. الأولى في إفريقيا والثانية في الشرق الأوسط. استفادت كلتاهما من سقطات وعقد القوّة الناعمة الفرنسية. سارعت روسيا إلى تدعيم وجودها الإفريقي، في خضمّ حالة الـ”لاقرار” الأوروبية أو الأممية في الحلول مكان القوات الفرنسية المنسحبة من إفريقيا. فجدّدت مجموعة فاغنر، وأعطتها تعريفاً جديداً هو “أفريكا كورس”، أي القوّة الإفريقية. فيما إيران التي أضحت لاعباً إقليمياً تسوّي برويّة ملفّاتها الشرق أوسطية والدولية.

إقرأ أيضاً: فرنسا بين ديغول وماكرون: سلطة الجمهورية الخامسة.. أقوى من الناس

كلّ ذلك دقّ أجراس التغيير في الإليزيه لضرورة التحرّك والتماهي مع المتغيّرات الطارئة. تحاول في سبيل تحقيق الثبات اتّخاذ التدابير المختلفة المستدامة. تجتهد في حماية بيئتها المكتسبة، لكي تظهر فعّاليّتها على المديَين القريب والمتوسّط، ولا تكون مفاعيلها عكسية. وهو ما يرتبط بالديناميّات المتبدّلة، والحراكيّات المتفلّتة للدول والمجموعات، مع الحاجة الضرورية إلى اتّباع مناهج أكثر مرونة وصراحة وصدق، من أجل معالجة كلّ التحدّيات السياسية والاقتصادية والأمنيّة، على  الرغم من استمرار تكاثر الشكوك.

 

لمتابغة الكاتب على X:

@ElMehiedine

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…