لا تزال زيارة وفد وزارة الخزانة الأميركية للبنان تتفاعل. خصوصاً بعد التأويلات التي خرجت إلى العلن عبر وسائل إعلام لبنانية وعربية، وتحدّثت عن أجواء سلبية سادت الزيارة… فهل كانت الأجواء سلبيّة فعلاً؟ أم كانت إيجابية مثلما أكّدت مصادر مصرف لبنان لـ”أساس”؟ بل ما هي الرسائل التي أراد وفد الخزانة الأميركية إيصالها إلى لبنان الرسمي من خلال تلك الزيارة؟ ماذا عن التوقيت؟ وماذا عن طبيعة الجهات التي زارها الوفد؟
في الشكل
قبل الإجابة عن تلك الأسئلة لا بدّ من البحث في الشكل. زيارة وفد الخزانة الأميركية استثنت رئاسة الحكومة والوزراء، واستهدفت 3 جهات:
1- مصرف لبنان: باعتباره الجهة التنفيذية الفعلية لكلّ ما هو ماليّ ونقدي واقتصادي في البلاد. وهذا وجّه ما يشبه “الإهانة” إلى الحكومة. التي تبدو منسحبة من كلّ واجباتها وتمتهن لعبة وحيدة عنوانها “الترقيع” و”شراء المزيد من الوقت”.
2- رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان: باعتباره الجهة المسؤولة عن ضبط الأمور القانونية – المالية في البرلمان قبيل تحوّلها إلى قوانين. ومعه بعض النواب في اللجنة نفسها الذين اختارهم وفد الخزانة الأميركية بالاسم. على ما كشفت معلومات خاصة لـ”أساس”. وذلك لعدم الوقوع في أيّ إحراج من خلال الاجتماع مع جهات تصنّفها واشنطن إرهابية. أو مع نواب يخضعون هم أو مرجعيّاتهم للعقوبات الأميركية.
3- تنظيمات غير حكومية: خصوصاً منظمة “كلّنا إرادة” التي لم يُفهم لماذا خصّها وفد الخزانة الأميركية بهذا اللقاء. لكنّ الترجيحات تذهب إلى اعتبار تلك المنظّمة مقرّبة من واشنطن ومموّلة منها. والقيّمون عليها من بين “الأطفال المدلّلين” لدى الشركات الأميركية، وأبرزها شركة “بلاك روك” وغيرها.
تكشف مصادر مصرف لبنان أنّ الزيارة تمحورت بشكل رئيسي حول مخاطر استخدام القطاع المالي في لبنان لتمويل الحركات “الإرهابية”
ماذا قال الوفد لوسيم منصوري؟
ما ورد أعلاه يراعي شكل الزيارة. أمّا مضمونها ففيه تباين وتضارب في المعلومات.
تحدّثت بعض المعلومات التي تواترت بُعيد الزيارة عن أجواء سلبية سادت اللقاءات. خصوصاً اللقاء الذي جمع وفد الخزانة الأميركية بحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري. إلّا أنّ مصادر مصرف لبنان وضعت تلك التُّهم في إطار “ذرّ الرماد في العيون” و”خلق أجواء سلبية” بشكل مقصود وممنهج. وذلك من أجل جلب الضرر إلى لبنان من دون أيّ مبرّر. كما اعتبرت أنّ نتائج الزيارة كانت إيجابية بالفعل، على عكس ما حاول البعض الإيحاء به.
أكّدت المصادر نفسها لـ”أساس” أنّ جيسي بيكر. نائب مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون آسيا والشرق الأوسط في مكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية. الذي رأس وفد الخزانة. أكّد “ثقته العالية بالمصرف المركزي وبعمله. وإلّا لم يكن وفد الخزانة مضطرّاً إلى إحراج نفسه بزيارة من هذا النوع”.
مكافحة تمويل “حماس” والحزب
أمّا عن مضمون الزيارة. فتكشف مصادر مصرف لبنان أنّها تمحورت بشكل رئيسي حول مخاطر استخدام القطاع المالي في لبنان لتمويل الحركات “الإرهابية” (وفق اعتبار الخزانة). مثل “حماس” والحزب. وحول كيفية اتّخاذ المزيد من الإجراءات أو اتخاذ إجراءات “استباقية” إضافية، من أجل منع أيّ تحويلات مشبوهة لا تراعي مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال.
تقول المصادر إنّ مصرف لبنان عرض وجهة نظره على وفد الخزانة الأميركية الذي كان متفهّماً لها. كما أكّد “المركزي” للوفد أنّ القطاع المصرفي اللبناني “حصين” ولا يمكن أن يشارك في جرائم مالية كهذه. لكنّه شرح أنّ ثمّة ثغرات تخصّ عمليات تحويل الأموال عبر جهات صيرفية “غير شرعية” لا يمكن ضبطها. وأنّها موجودة ومنتشرة في أغلب دول العالم. حتّى إنّ بعض الصرّافين والمضاربين يتسلّمون الأموال في مكان ويسلّمونها في مكان آخر من خلال العلاقات الشخصية والأموال “الكاش” الخاصّة.
تقول المصادر إنّ مصرف لبنان عرض وجهة نظره على وفد الخزانة الأميركية الذي كان متفهّماً لها
التقصير قضائيّ وسياسيّ… وليس ماليّاً
لم تخفِ مصادر مصرف لبنان أيضاً أنّ زيارة وفد الخزانة الأميركية للبنان كانت مرتبطة بشكل أو بآخر بتوسّع “بقعة الكاش” داخل الاقتصاد اللبناني. وكذلك بملفّ لبنان المفتوح لدى “مجموعة العمل المالي” (Mena FATF). و”يبلي فيه القطاع المصرفي اللبناني بلاءً حسناً”. خصوصاً في مجال مكافحة تبييض الأموال ومكافحة الإرهاب. لكنّ التقصير مصدره السلطات السياسية والقضائية لا السلطات الماليّة والنقدية التي تتجاوب لسدّ الثغرات.
لكن بمعزل عن هذا الكلام كلّه، وكذلك بمعزل عن صحّة ودقّة ما نقلته مصادر مصرف لبنان. وهي صحيحة ودقيقة بالفعل. فإنّ بعض المصادر المطّلعة على خلفيّات الخزانة الأميركية ومراميها، تعتبر أنّ مصادر المركزي “ربّما لم تنقل الصورة كاملة”. وترجّح السبب وفق 3 احتمالات:
1- لعدم إظهار “صورة سلبية” عمّا يحصل في لبنان اليوم على المستويين الماليّ والنقدي.
2- لعدم كشف ما تريده الخزانة الأميركية من لبنان في العمق.
3- لعدم قدرة المصرف المركزي وحاكمه على الوقوف بوجه السلطة السياسية.
الخزانة الأميركيّة متفهّمة… ولكن
تقول المصادر إنّ تركيز الخزانة ينصبّ، في المجمل، على 3 عناوين رئيسية. وهي ما يبرّر ربّما شكل الزيارة. أي يبرّر لماذا استثنى الوفد الحكومة ورئيسها والوزراء من لقاءاته. وحصر البحث بمصرف لبنان ورئيس لجنة المال والموازنة وبعض أعضائها النواب.
أمّا تلك العناوين فهي:
1- تمويل التنظيمات الإرهابية: الخزانة الأميركية في نظر المصارف لا تأبه للّعبة السياسية في لبنان ولا للتطوّرات الأمنيّة في الجنوب. بل جلّ ما تهتمّ به هو التأكّد من عدم وقوع لبنان، نتيجة الفوضى الأمنيّة والسياسية، ضحيّة “الفلتان النقدي”. فهذا الفلتان قد يُمكّن التنظيمات التي تعتبرها الولايات المتحدة “إرهابية”. مثل “حماس” والحزب وغيرهما. من استغلال الوضع لتبييض الأموال. أو جعل لبنان “ممرّاً” أو “جنّة” لاقتصاد “الكاش” وعمليات غسل الأموال. فالتركيز على حركة “حماس” من جانب الخزانة الأميركية لا يعني فرع الحركة في غزّة فقط. بل و”حماس” في لبنان وفي الإقليم التي لها القدرة على “تمويل وتسليح” الحركة في غزّة.
حينما تطالب وزارة المالية المكلّفين بدفع الرسوم والضرائب بالليرات أو بالدولارات “الكاش”، فإنّها تشجّع بطريقة غير مباشرة على تبييض الأموال
2- دفع الضرائب بالعملات الكاش: هذا يؤرق الخزينة كثيراً. خصوصاً مع توسّع “اقتصاد الكاش” إلى ما فوق 50% (قرابة 10 مليارات دولار). وانجرار السلطة السياسية نحو التأقلم مع هذا الواقع المستجدّ. بل تشجيعه من خلال حضّ المكلّفين على دفع الضرائب والرسوم بالأوراق النقدية. خصوصاً بالدولار الأميركي. من دون اتّخاذ الاجراءات المطلوبة لضبط هذا الواقع على قاعدة “من أين لك هذا؟”. أي لناحية مطالبة المكلّفين (الشركات المحلّية والمستوردة والأفراد) بإثبات مصدر تلك الأموال.
على سبيل المثال، حينما تطالب وزارة المالية المكلّفين بدفع الرسوم والضرائب بالليرات أو بالدولارات “الكاش”، فإنّها تشجّع بطريقة غير مباشرة على تبييض الأموال… وهذا ما يحضّ الوفد الأميركي على ضبطه.
تعرف الخزانة الأميركية جيّداً أنّ الإفراط في اللجوء إلى استخدام “الكاش” ليس سببه تبييض الأموال ولا تمويل الإرهاب. بل هو ناتج عن فقدان الثقة بالقطاع المصرفي. ومن هذا المنطلق، ينبع خوف الخزانة الأميركية من الحرص على عدم تحويل لبنان في ظلّ هذا الوضع إلى “جنّة” لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ما تريد أن تراه الخزانة هو فرض إجراءات متشدّدة من قبل المصارف التجارية، شركات الصيرفة وتحويل الأموال، والسلطات صاحبة الاختصاص (مصرف لبنان).
ترتاح الخزانة الأميركية لوسيم منصوري. خصوصاً بعدما تسلّم مهامّه بموجب قانون النقد والتسليف
3- الموازنة العامّة لعام 2024: خصوصاً بعدما استبدلت السلطة السياسية في تلك الموازنة خيار “الدولرة” بتكريس الدولار الأميركي “عملة رئيسية” بدلاً من الليرة اللبنانية. فهذا الإجراء في نظر الخزانة الأميركية يجبرها على التدخّل من باب الحرص على عملتها الوطنية وعدم استخدامها في عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. مع العلم أنّ هذا الإجراء يضع الاقتصاد اللبناني. بل لبنان برمّته. تحت رحمة أيّ إدارة أميركية مقبلة قد تقرّر يوماً ما حظر استخدام لبنان عملتها الوطنية. عندها قد يصل لبنان إلى ما واصل الاعلام ترداده على مدى سنوات الأزمة الأربع ولم نعرف ما هو شكله… أي قد نصل بالفعل إلى “الارتطام الكبير”.
المزيد من الجرأة؟
بالفعل ترتاح الخزانة الأميركية لوسيم منصوري. خصوصاً بعدما تسلّم مهامّه بموجب قانون النقد والتسليف. ولم “يُكلَّف بتصريف الأعمال” بمرسوم أو بتكليف من الحكومة (يوم هدّد نوّاب الحاكم بالاستقالة وعرضت الحكومة تكليفهم بتصريف أعمال المصرف المركزي). من هذا المنطلق، تعتبر الخزانة الأميركية، كما “مجموعة العمل المالي”، أنّ حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري حائز صلاحيات الحاكم كاملة. وهي صلاحيات واسعة، لكنّه لا يمارسها كفاية. فهي تمكّنه من اتّخاذ إجراءات متشدّدة قد تصل إلى حدّ فرض عقوبات أو الإقفال بحقّ أيّ جهة. سواء كانت أفراداً أو شركات. تتعاطى بالعملة النقدية ولا تمارس الحدّ الأدنى من الحيطة والحذر لتفادي تبييض الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب. خصوصاً إن كانت تلك الجهات لا تملك إثباتات لمصدر هذه الأموال.
إقرأ أيضاً: وفد الخزينة الأميركية: هل يُمنَع لبنان من استخدام الدولار؟
كما أنّ تلك الصلاحيّات واسعة لدرجة أنّها تشمل مؤسّسات تجارية وشركات غير ماليّة، مثل الجامعات والمستشفيات والجمعيّات والمنظّمات على أنواعها. وهو ما لا تملكه وزارات مثل وزارة المالية أو وزارة العدل مثلاً.
لمتابعة الكاتب على X: