غادر وفد الخزينة الأميركية لبنان. وقد عقد اجتماعات مع المسؤولين الماليين والسياسيين. أبرزهم حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري. وأبرز مطالب الوفد تقليص “اقتصاد الكاش” الذي يسمح بتبييض الأموال. كما حذّر من استخدام القطاع المالي لتمويل حركة “حماس” من لبنان. لكن هل تصل المخاطر إلى منع لبنان من استخدام الدولار؟
ماذا يفعل وفد من الخزينة الأميركية في لبنان؟
بعد “الكساد المتعمّد”، وهما الكلمتان اللتان استعملهما رئيس البنك الدولي في وصف أداء السلطة الحاكمة في لبنان، لم يبقَ للمواطن اللبناني إلا الانتظار. انتظار الخلاص من خارج الحدود:
– “اللجنة الخماسية” التي تهتمّ بملفّ رئاسة الجمهورية.
– صندوق النقد الدولي الذي يسلّط الضوء على سلامة المالية العامّة والقطاع المصرفي.
– البنك الدولي الذي يمدّ يد المساعدة لتوفير التمويل للبنان بعدما أُقفلت أبواب الأسواق المالية في وجهه إثر قرار حكومة الدكتور حسان دياب الأحاديّ الجانب (من دون التشاور مع الدائنين) التوقّف عن خدمة الدين العام. وكان ذلك في آذار من سنة 2020.
– الخزينة الأميركية التي تحرص على تصويب أداء القطاع المصرفي اللبناني وعدم توريطه في مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
من الاحتمالات الخطيرة على لبنان أن تتّخذ الخزينة الأميركية قراراً قد يكون مدمّراً في تداعياته. يتمثّل في “منع لبنان، الرسمي العامّ والخاصّ، من التعاطي بالدولار الأميركي. وإنزال أقصى العقوبات بالكيانات والأفراد التي لا تلتزم”. من هنا تأتي زيارات وفود الخزينة الأميركية للبنان سنوياً… والاجتماع بمكوّنات القطاع المالي من مصرف لبنان، ولجنة المال والموازنة البرلمانية، وجمعية مصارف لبنان. وقد تجتمع هذه الوفود أحياناً مع مجموعات من المجتمع المدني اللبناني التي تهدف في عملها إلى تقديم خدمات الرعاية الصحّية والاجتماعية. وقد يتمّ استغلالها لغايات شيطانية!
غادر وفد الخزينة الأميركية لبنان. وقد عقد اجتماعات مع المسؤولين الماليين والسياسيين
ما هي أهداف زيارات الخزينة الأميركية؟
تتلخّص أهداف زيارات وفود الخزينة الأميركية للدول، ومنها لبنان، في تعزيز التعاون الدولي في مجالات الاقتصاد والمالية ومكافحة الجريمة المالية. بهدف تعزيز الاستقرار الماليّ العالمي وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة.
لدى الخزينة الأميركية أهداف متعدّدة عند زيارتها لدول أخرى. وتتنوّع هذه الأهداف بحسب الظروف والتحدّيات التي تواجهها الدول المستضيفة. وتشمل عادة مجموعة من الجوانب المالية والاقتصادية والأمنيّة، وأهمّها:
– تعزيز العلاقات الاقتصادية والمالية: تهدف الخزينة الأميركية إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والمالية مع الدول الأخرى. سواء كان ذلك من خلال تعزيز التبادل التجاري، أو تعزيز التعاون في مجالات مثل الاستثمار والتمويل وتبادل المعلومات المالية.
– مكافحة الفساد وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب: تلعب الخزينة الأميركية دوراً مهمّاً في مكافحة الفساد وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب على الصعيدين الوطني والدولي. ويتمّ ذلك من خلال التعاون مع الحكومات الأخرى والمؤسّسات الدولية لتطوير وتنفيذ سياسات وتشريعات تعزّز الشفافية وتقييد تدفّق الأموال غير المشروعة.
– تعزيز الاستقرار المالي العالمي: تسعى الخزينة الأميركية إلى دعم الاستقرار الماليّ العالمي. من خلال التعاون مع الدول الأخرى في تطوير وتنفيذ سياسات وإجراءات تعزّز النظام الماليّ الدولي وتحدّ من الأزمات المالية العالمية.
– تنظيم القطاع الماليّ وتطبيق العقوبات الدولية: تهتمّ الخزينة الأميركية بتنظيم القطاع الماليّ وتطبيق العقوبات الدولية على الكيانات والأفراد الذين ينتهكون القوانين والمعايير الدولية. ويشمل ذلك التعاونَ مع الدول الأخرى في تنفيذ ومراقبة القوانين والتدابير اللازمة لضمان الامتثال.
– تعزيز الشفافية الماليّة وتبادل المعلومات: تسعى الخزينة الأميركية إلى تعزيز الشفافية المالية وتبادل المعلومات المالية مع الدول الأخرى. سواء كان ذلك من خلال تطوير البنى التحتية لتبادل المعلومات أو توقيع اتفاقيات تعاون ماليّ متبادل.
من الضروري أن يلتزم لبنان، بكلّ مكوّناته، العمل على المساهمة في تحقيق أهداف زيارة وفد الخزينة الأميركية
سبب الاهتمام بلبنان: دولرة الاقتصاد
كان الدافع إلى اهتمام الخزينة الأميركية الاستثنائي بلبنان في التسعينيات هو إعلان الدولة اللبنانية ربط مصير الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي. وتشريع الدولار، نقداً وحسابات مصرفية، كعملة رديفة ومواكبة للعملة الوطنية. ويستمرّ هذا المشهد حتى يومنا هذا.
لن يؤثّر قرار الحكومة اللبنانية على سلامة النقد الأميركي ولا على الاقتصاد الأميركي. لكن قد يساء استخدام الدولار في عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ومن هنا ابتدأ المشوار.
اليوم، في النصف الأوّل من آذار من سنة 2024، يزور وفد من الخزينة الأميركية لبنان وفي جعبته ملفّ دسم ومثقل بالمخاطر. لأنّ لبنان:
1- يعاني من فائض غير صحّي في الاعتماد على الأوراق النقدية في التبادل داخل الاقتصاد الوطني. وهو ما يجعله عرضة للاستغلال من قبل المجرمين.
2- ينتظر “مجموعة العمل المالية الدولية – FATF”، في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط (MENA) لإصدار قرارها النهائي… لجهة اعتبار لبنان كياناً ملتزماً ومتعاوناً في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب أو لا.
وتهدف جهود الخزينة الأميركية ومجموعة FATF إلى تعزيز الشفافية المالية العالمية ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. يعمل الطرفان بشكل مشترك على تعزيز التعاون الدولي وتبادل المعلومات وتطبيق المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالتالي، فإنّ زيارات الخزينة الأميركية قد تعزّز التعاون مع لبنان لتعزيز الامتثال لمعايير FATF وتعزيز الحوكمة المالية الدولية.
3- لبنان الرسمي يماطل في إصلاح وضع القطاع المصرفي وتنظيم عمله وتصويب أدائه. وذلك لكي يستطيع أن يعود إلى لعب دوره في تفعيل العجلة الاقتصادية والعودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي (شيكات، بطاقات دفع وبطاقات ائتمان، وغيرها). إيجابيات ذلك ستكون تقلّصاً في حجم اقتصاد الظلّ ونموّاً في الاقتصاد الرسمي.
استطاع عدد من المصارف التجارية اللبنانية من المحافظة على علاقة جيّدة ومتينة مع المصارف المراسلة. لكن بكلفة إضافية وإجراءات مشدّدة لتفادي التداعيات السلبية
4- لبنان المصرفي والتزامه بتنفيذ العقوبات الأميركية على بعض الكيانات والأفراد في لبنان. الذين كان قد صدر قرار عقوبات بحقّهم. وضرورة التأكّد من ابتعاده، أي القطاع المالي، عن تمويل، أو تسهيل تمويل عمل كيانات و/أو أفراد كانت قد صنّفتهم الخزينة الأميركية إرهابيين.
5- لبنان الرسمي وقرار الدولة في تنفيذ الدولرة المموّهة. وذلك من خلال اعتماد الدولار الأميركي، وليس الليرة اللبنانية، في تحصيل إيرادات الدولة… والتركيز على الدولار في احتساب نفقات وإيرادات القطاع العامّ بكلّ مكوّناته.
أهميّة إنجاح الزيارة
من الضروري أن يلتزم لبنان، بكلّ مكوّناته، العمل على المساهمة في تحقيق أهداف زيارة وفد الخزينة الأميركية. بسبب الوضع الاقتصادي الحسّاس الذي أوصلنا إليه تعمُّد السلطة الحاكمة عدم تصويب أدائها وترك مكوّنات الاقتصاد الوطني تتخبّط في تداعيات إهمال الدولة.
إنزال أيّ نوع من العقوبات الأميركية بالكيان اللبناني والحظر عليه استعمال الدولار الأميركي سوف تكون لهما تداعيات كارثية. وذلك بسبب الإفراط في الاعتماد على هذه العملة في كلّ عملية تبادل أو تداول داخل الاقتصاد. على الرغم من كلّ المشاكل والأزمات التي عصفت بالاقتصاد المحلّي. وأكثرها ضرراً على عمل المصارف كان تصنيف لبنان الائتماني في فئة “التعثّر المحدود”.
إقرأ أيضاً: أزمة المصارف “نظاميّة”… هذا هو الدليل
استطاع عدد من المصارف التجارية اللبنانية من المحافظة على علاقة جيّدة ومتينة مع المصارف المراسلة. لكن بكلفة إضافية وإجراءات مشدّدة لتفادي التداعيات السلبية التي قد تنتج عن التعرّض للمخاطر الائتمانية ومخاطر السمعة (التي قد تنتج عن عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب). هذه المصارف اليوم هي المحرّك الأساسي وراء استمرار عجلة الاقتصاد اللبناني في الدوران. الإفراط في ضرورة التجاوب بشكل إيجابي ومتعاون مع الزيارة يكون مدمّراً. وسوف نكون بحاجة إلى إعادة تكوين الاقتصاد بكلّ فروعه وتفاصيله ليكون هناك لبنان مجدّداً.
لمتابعة الكاتب على X:
* خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد.