لا يبدو أنّ السلطة ستستطيع إرضاء موظّفيها من خلال زيادة رواتب القطاع العام التي أقرّتها قبل أيام. وستعود المطالبات بزيادات إضافية إلى الواجهة بعد أشهر. وزارة المالية ملزمة بجباية ما يدرّ 550 مليار ليرة لبنانية يومياً لتسدّ تلك الرواتب. بينما مصرف لبنان مطالَب بشراء ما بين 4 إلى 5 ملايين دولار يومياً أيضاً لتوفير تلك الرواتب بالدولار الأميركي. وهذا أمر صعب جداً وضاغط في ظلّ الظروف السائدة في البلاد.
تشوب زيادة رواتب القطاع العام التي أقرّتها الحكومة لموظّفي القطاع العام والمتقاعدين في جلستها الأخيرة قبل أيام، ثغرتان:
– الأولى، تتعلّق بقدرة الدولة على الجباية.
– الثانية تتعلّق بقدرة مصرف لبنان على تحويل الليرات إلى دولارات.
معضلة الجباية
بموجب تلك الزيادة التي هي أشبه بـ”Mini سلسلة رتب ورواتب”، ارتفعت كتلة رواتب القطاع العام إلى ما بين 50% و100%، أو إلى ما بين 10 و12 تريليون ليرة لبنانية.
فلنفترض أنّها ارتفعت إلى 11 تريليون كمعدّل وسطي، فهذا يعني أنّ حجم الرواتب والأجور السنوي أصبح 132 تريليون تقريباً. أو ما يعادل 1.47 مليار بالدولار الأميركي. أي نصف إيرادات الموازنة تقريباً.
ولمّا كانت وزارة المالية تدفع رواتب موظّفيها بالدولار الأميركي، ومصرف لبنان يرفض تمويلها. فذلك يعني بدوره أنّ وزارة المالية ستكون ملزمة بتوفير التريليونات الـ132 من الرسوم والضرائب من أجل سدّ رواتب موظّفيها. أي بمعدّل 550 مليار ليرة لبنانية يومياً (20 يوم عمل بدون السبت والأحد). وهذا من دون الحديث عن قدرتها على توفير إيرادات الخدمات الأخرى شبه المعدومة أصلاً مثل الطبابة والتعليم والكهرباء وخلافه.
تشوب زيادة رواتب القطاع العام التي أقرّتها الحكومة لموظّفي القطاع العام والمتقاعدين في جلستها الأخيرة قبل أيام، ثغرتان
تلزم الزيادة الموظّفين الممتعضين بالحضور 14 يوماً في الحدّ الأدنى. وهذا يعني أنّ عدد أيام الحضور قبل الزيادة كان أقلّ من ذلك. وربّما يعودون إليه ما دام الموظفين غير راضين عن تلك الزيادات ويطالبون بالمزيد. وهذا أيضاً يفيد بأنّ التقصير في جباية أموال الرواتب قد يظهر مستقبلاً، فنعود إلى حيث انتهينا في بدايات الأزمة. خصوصاً أنّ إدارات كثيرة ما زالت مقفلة مثل النافعة والدوائر العقارية، وثمّة أزمة طوابع، وضعف وتقصير بالجباية. وهذه الدوائر هي التي تأتي بمليارات الليرات يومياً، وهي النواة الصلبة للجباية في لبنان. وبالتالي سيكون من الصعب تغطية رواتب القطاع العام الجديدة.
معضلة صرف الليرات إلى دولارات
إذا اعتبرنا أنّ سعر صرف الدولار بقي ثابتاً عند 89,500 (وربّما يكون هذا الأمر مستبعداً)، فإنّ مصرف لبنان سيكون ملزماً بشراء دولارات لوزارة المالية من السوق بواسطة تلك المليارات الـ550. أي سيكون ملزماً بشراء قرابة 123 مليون دولار شهرياً، أي بين 4 و5 ملايين دولار يومياً (بحسب أيام عمل الصرّافين والمضاربين).
لكنّ توفير هذا الحجم من الدولارات من السوق يُعدّ أمراً صعباً. خصوصاً أنّ مصرف لبنان يتدخّل في السوق بحذر شديد حرصاً على عدم الضغط على الليرة. مع العلم أنّ حجم الدولارات المتوفّرة في السوق يميل بشكل مطّرد إلى التراجع، وذلك للأسباب التالية:
1- ميل المواطنين، أكثر فأكثر، إلى عدم تحويل دولاراتهم إلى ليرات لبنانية.
2- تراجع المواسم السياحية منذ حرب 7 أكتوبر (تشرين الأول) في قطاع غزة، التي دفعت بالعديد من السيّاح والمغتربين إلى الإحجام عن زيارة لبنان وإلغاء الحجوزات في الفنادق والطائرات، وبالتالي وقف دخول العملة الصعبة إلى لبنان من خلال السيّاح والمغتربين.
3- تراجع الدورة الاقتصادية نتيجة الحرب نفسها. إذ كشف وزير الاقتصاد أمين سلام قبل أيام أنّ تلك الحرب وتبعاتها التي طالت جنوب لبنان أدّت إلى خسائر وصلت إلى ما بين 7 و10 مليارات دولار.
لا يبدو أنّ السلطة ستستطيع إرضاء موظّفيها من خلال زيادة رواتب القطاع العام التي أقرّتها قبل أيام
4- تراجع التحويلات في ظلّ الظروف الأمنيّة الحالية. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على مؤشّر “فصل الصيف” والموسم السياحي الزاخر عادة بدولارات السيّاح والمغتربين.، لتغطية زيادة رواتب القطاع العام.
لكن بعيداً عن تلك الظروف، فإنّ السلطة تتّكىء على ما جمعته من إيرادات خلال الأشهر الفائتة. والبالغة بحسب تصريحات الحاكم بالإنابة وسيم منصوري قرابة 450 مليون دولار. وهي كفيلة بتوفير قرابة 4 رواتب مسبقاً فقط. هذا بمعزل عن احتمالات زيادة نسبة التضخّم، ودخولنا في المعضلة المسمّاة في علم الاقتصاد “Wage – Price spiral“. وهي تفيد بأنّ زيادة الرواتب في الأزمات تتسبّب بزيادة أسعار السلع، ثمّ المطالبة بزيادات أخرى… وهكذا دواليك.
تلك الزيادة ستحضّ موظّفي القطاع الخاص على طلب زيادات مشابهة. عندها سيضطر أرباب العمل إلى زيادة أسعار الخدمات والسلع لتغطية الفرق، وذلك لتغطية طلبات موظفي القطاع الخاصّ بزيادة رواتبهم تيمّناً بالزيادات في رواتب القطاع العام. وهنا سندخل في النفق نفسه الذي اختبرناه قبل سنوات.
رواتب القطاع العامّ ليست منخفضة
لكن بمعزل عن كلّ تلك العقبات، ثمّة سؤال يُطرح مع كلّ مطالبة عمومية بزيادة على الرواتب، ومفاده: هل المطالبة محقّة؟ هل يستحقّ موظّفو القطاع العامّ تلك الزيادات؟ هل هي فعلاً مجحفة؟
الإجابة البديهية (وربّما السريعة أو المتسرّعة) على هذا السؤال تقول: نعم… رواتب القطاع العامّ، نسبة لقدرتها الشرائية ومستلزمات العيش الكريم، لا تكفي على الإطلاق.
لكنّ التعمّق العلمي بأزمة الرواتب يكشف الكثير من التفاصيل. إذا نظرنا إلى حجم الرواتب في القطاعين العامّ والخاصّ بالدول التي تشبه لبنان من حيث الهويّة الاقتصادية. (القائم على الخدمات، ويفتقر إلى الموارد الطبيعية والثروات). نلاحظ أنّ حجم رواتب ما قبل الأزمة التي يقيس الموظفون رواتبهم بموجبها كان خيالياً، ولا يعكس حقيقة الواقع اللبناني اليوم. ولا يمكن المطالبة بعودة الرواتب إلى ما كانت عليه في السابق، وذلك للأسباب التالية أيضاً:
يبدو أنّ السلطة في لبنان تفضّل إرضاء موظّفيها (قواعدها الانتخابية وأزلامها بالمجمل) على حساب بناء اقتصاد معافى وسليم
– رواتب ما قبل الأزمة كانت تراوح بين 1,000 و4,000 دولار تقريباً. وكانت منتفخة بقدرة شرائية مشوّهة نتيجة تثبيت سعر الصرف عند 1,500 ليرة. بينما سعر الصرف الحقيقي بحسب ما كان يقدّره صندوق النقد الدولي هو قرابة 3,000 ليرة أو أقلّ بقليل. وهذا يعني أنّ الرواتب كانت مضاعفة بشكل غير حقيقي، ولا يمكن القياس عليها اليوم.
– الخدمات التي كانت تقدّمها الدولة من تعليم وكهرباء ومحروقات ومياه وخلافه… مدعومة (فوق دعم سعر الصرف)، فُقدت اليوم. وبات المواطن اللبناني في القطاعين العام والخاص مجبراً على الحصول عليها بشكل منفرد من خلال “السوق السوداء” المفتوحة والمشرّعة على كلّ تلك السلع: اشتراك الكهرباء، المدارس الخاصّة، الطبابة في مستشفيات خاصة، المحروقات المرتفعة…
بالعودة إلى الحدّ الأدنى للأجور في الدول التي تشبهنا فهي بدورها كالتالي:
- في مصر 156 دولاراً ويُنتظر رفعها الشهر المقبل إلى قرابة 200 دولار شهرياً.
- في الأردن 366 دولاراً.
- في العراق 240 دولاراً.
- في تونس 125 دولاراً.
- في تركيا 640 دولاراً.
- في المغرب 285 دولاراً.
إقرأ أيضاً: سعر صرف الدولار على المحكّ.. حرب وزيادات وإضرابات
أمّا في لبنان فإنّ الحدّ الأدنى لأجور ورواتب القطاع العام بعد الزيادة، أصبح تقريباً يلامس 400 دولار. وكلّ هذا من دون الغوص في عدد موظّفي القطاع العام بلبنان المنتفخ والذي يستدعي ترشيقه بشكل عاجل. وذلك من أجل الحدّ من تآكل إيرادات الموازنات المتعاقبة.
لكن يبدو أنّ السلطة في لبنان تفضّل إرضاء موظّفيها (قواعدها الانتخابية وأزلامها بالمجمل) على حساب بناء اقتصاد معافى وسليم!
لمتابعة الكاتب على X: