السودان يشبه لبنان تقريباً، حيث فوضى السلاح والغارات الإسرائيلية، وآخرها مجزرة ارتكبتها قوات الإحتلال في النبطية أمس. والبلدان يشبهان دولاً عربية عديدة، حيث انهيار الدولة يجعلها ضعيفةً أمام الخارج، والداخل. هذا المقال عن السودان، ودارفور، وكيف ولدت “قوات الدعم السريع” وصارت أقوى من جيش عمر البشير الذي أنشأها؟
الحروب الأهلية ولّادة ميليشيات وجيوش صغيرة. تبدأ على شكل عصابات مسلّحة وما تلبث أن تصير دويلات داخل الدول. قلّة من هذه الحركات المسلّحة رفعت الشعار الوطني. وغالبيّتها بقيت أسيرة المنطق الشلليّ أو الطائفي أو العرقي أو الجهوي الذي انطلقت منه أو قاتلت من أجله. يقاتل الجيش الصغير بسلاح الجيش الكبير ثمّ يصير أقوى منه ويفرض مشيئته وقراراته عليه. هذه الظاهرة الشرق أوسطية بامتياز لم توفّر أيّ دولة عانت من ويلات الحروب: لبنان، العراق، اليمن، ليبيا وسوريا.
في السودان، أنشأ جيش نظام الرئيس المخلوع عمر البشير جيشاً صغيراً لمساندته في حربه ضدّ المتمرّدين على حكمه في دارفور. أطلق على هذا الجيش الصغير اسم “قوات الدعم السريع”. وما لبثت هذه العصابة المسلّحة التي ارتكبت الويلات في الإقليم المنكوب أن تحوّلت جيشاً أكبر من جيش الدولة. انقلبت أوّلاً على البشير ونظامه ثمّ على الجيش الذي ولدت من رحمه وجرّت البلد إلى أخطر انقسام يعيشه منذ انتهاء الحرب بين الشمال والجنوب بالطلاق النهائي بين جوبا والخرطوم وإنشاء دولتين على خريطة السودان الواحد.
في الحرب الجديدة التي يعيشها هذا البلد منذ قرابة سنة، فرّخت كالفطر الميليشيات العسكرية ومنظّمات الدفاع الشعبي على حوافي الجيشين الكبيرين. بعضها بدعم محلّي وبعضها الآخر بدعم خارجي، وهو الأخطر.
“المقاومات”… حول الجيش
حول الجيش الرسمي برئاسة الجنرال عبد الفتاح البرهان، ظهرت “المقاومة الشعبية” التي ضمّت مجموعات وكتائب قتالية شبه مستقلّة. مثل كتيبتَي “البراء بن مالك” و”غاضبون بلا حدود” الناشطتين خصوصاً في ولاية العاصمة الخرطوم. وظهرت كتيبة “المطمورة” في ولاية القضارف في الشرق. أمّا في الولايات التي لم تمتدّ إليها أصابع الحرب، فبات مألوفاً مشهد مئات المتطوّعين والمستنفرين يؤدّون تدريبات عسكرية للالتحاق بـ”المقاومة الشعبية” ومواجهة أيّ تحرّك محتمل لـ”قوات الدعم السريع”. وضمّت “المقاومة الشعبية” فرقاً خاصّة، بينها “استخبارات المقاومة في أمّ درمان القديمة”، وهي المدينة التي تمثّل جزءاً مهمّاً من العاصمة.
وشكّل الإسلاميون الموالون للنظام السابق عماد عدد كبير من المجموعات المسلّحة، ولا سيما “البراء”. في حين انضمّ “ثوريون” إلى كتيبة “غاضبون” لمساندة جيش البرهان بحجّة “الدفاع عن الوطن في مواجهة ميليشيات عابرة للحدود”. وتقاتل أيضاً إلى جانب الجيش السوداني كتيبة “البنيان المرصوص”. وهي من أكبر الكتائب السابقة في قوات “الدفاع الشعبي” التي حُلّت عام 2020. وتضمّ عناصر سابقة في جهاز الأمن والمخابرات الوطني ممّن تركوا العمل بعد إطاحة البشير. وكذلك مجموعة “الأمن الشعبي” التي كانت تتولّى خلال حكم البشير مهمّات أمنيّة عالية السرّية.
30 تشكيلاً مع “قدس”
في المقابل تقرّ “قوات الدعم السريع” (قدس) بالتحاق 30 تشكيلاً عسكرياً بصفوفها أو تحت إمرتها. من بينها قوات “درع السودان” التي تطالب بحقوق أهالي وسط السودان، وقوات “الصحوة” بقيادة مؤسّس “الجنجويد” موسى هلال، وحركة “تمازج”.
لا تقتصر هذه المجموعات على السودانيين، إذ ظهر قائد “حركة مظلوم” التشاديّة، حسين الأمين جوجو، وهو يقاتل في صفوفها في الخرطوم، إضافة إلى تشكيلات مسلّحة من جنوب السودان. وأنتجت “قدس” خطاباً قبليّاً. وهو ما جعل الكثير من الحركات المنتمية إلى حاضنتها الاجتماعية في دارفور وكردفان تسارع إلى مناصرتها في الحرب الدائرة بينها وبين الجيش السوداني. كذلك من بينها حركة “شجعان كردفان” بزعامة أمير حرب يطلق على نفسه اسم “جلحة”.
جاءت العودة الإيرانية إلى السودان بعد قطيعة دبلوماسية استمرّت سنوات لتضيف لاعباً جديداً ليس فقط على الساحل السوداني المطلّ على البحر الأحمر بل وفي عمق الخريطة السياسية الداخلية
ثمّة تشكيلات كانت تقاتل في ليبيا عادت إلى السودان، وباتت تقاتل إلى جانب “قوات الدعم السريع”. بعضها من منطلقات قبلية، وبعضها بحثاً عن المال. وبعض هذه المجموعات خرجت عن السيطرة وتحوّلت إلى عصابات للسرقة والنهب أو تحوّل بعضها إلى ميليشيات مستقلّة بالكامل تفرض نفوذها كقوى أمر واقع في مناطق سيطرتها. لا سيما في ولاية الجزيرة التي تعرّضت لانتهاكات واسعة وعمليات نهب.
92 حركة.. بينها 87 في دارفور
يضاف إلى هذه التشكيلات حركات تمرّد قديمة العهد ومتجذّرة في مناطق سودانية يفوق عددها 92 حركة، بينها 87 في دارفور نفسها وخمس في كردفان والنيل الأزرق. وأبرزها “الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ شمال” المنقسمة إلى قسمين: أوّلهما بقيادة مالك عقار، والثاني بقيادة عبد العزيز الحلو في كردفان. وهناك “حركة العدل والمساواة”، بقيادة جبريل إبراهيم. و”حركة تحرير السودان” بزعامة عبد الواحد محمد نور الناشطتين في دارفور. قسم من هؤلاء يقف على الحياد في هذه الحرب، لكنّه يحتفظ بسلاحه ونفوذه المناطقي. وقسم آخر اتّخذ جانب أحد الأفرقاء تبعاً لمصالحه الشخصية أو خوفاً من إضعاف نفوذه.
أميركا والصين وروسيا… والدول المجاورة
استثمرت دول عدّة في هذه الفصائل والمجموعات تبعاً لاستثمارها في الحرب السودانية تحقيقاً لمآرب خاصة ومصالح على حساب وحدة السودان وسيادته. وذلك طمعاً برأس جسر في موقعه الجغرافي الذي زادت أهمّيته في ظلّ الحرب السوداء على البحر الأحمر. أو طمعاً بثرواته الهائلة الظاهرة والدفينة وآخرها الذهب:
– أوّل المستثمرين الدول الكبرى، وفي مقدَّمها الولايات المتحدة والصين وروسيا.
– وثانيهم الدول الإفريقية المجاورة. ولا سيما إثيوبيا وكينيا وتشاد وإريتريا.
– وثالثهم الدول العربية التي تتفاوت مصالحها بين داعم للجيش السوداني وبين داعم لـ “الدعم السريع”.
– ورابعهم الدول الإقليمية، وأخطرها إسرائيل بالتنسيق مع الإمارات الساعية إلى تغيير خرائط المنطقة وجعل البحر الأحمر بحيرة إسرائيلية بعدما كانت عربية صرفة.
تقرّ “قوات الدعم السريع” (قدس) بالتحاق 30 تشكيلاً عسكرياً بصفوفها أو تحت إمرتها. من بينها قوات “درع السودان” وقوات “الصحوة” وحركة “تمازج”
ماذا تريد إيران؟
جاءت العودة الإيرانية إلى السودان بعد قطيعة دبلوماسية استمرّت سنوات لتضيف لاعباً جديداً ليس فقط على الساحل السوداني المطلّ على البحر الأحمر بل وفي عمق الخريطة السياسية الداخلية.
تتعدّى المسألة الإيرانية دعم الجيش السوداني بمسيّرات من طراز “مهاجر” التي من شأنها تعديل ميزان القوى العسكري لمصلحة قوات البرهان على حساب قوات “الدعم”، أو إيجاد موطىء قدم على الضفة الغربية للبحر الأحمر يعزّز وجودها عبر حليفها الحوثي على ضفّته الشرقية في الساحل اليمني، إلى الاستثمار في الشأن الداخلي السوداني عبر توسيع هامش حلفائها والأصدقاء.
دائماً ما ربطت علاقة قويّة بين طهران والحركة الإسلامية في السودان التي تزعّمها المفكّر الراحل حسن الترابي والرئيس المخلوع البشير. صحيح أنّ العلاقة قُطعت علناً عام 2016، نتيجة لاقتحام السفارة السعودية في طهران. لكنّ العلاقة غير الرسمية ظلّت قائمة حتى في زمن التوتّرات، وبقي الطرفان على تواصل.
بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين الخرطوم وطهران قبل أشهر، نشرت وسائل إعلام أنّ “طهران تلقّت وعداً من قيادات محسوبة على الحركة الإسلامية بالتعاون معها وتسهيل مدّ نفوذها في البحر الأحمر إن قدّمت للجيش دعماً عسكرياً سخيّاً يساعده على الصمود في الحرب.”
الشرق “إيراني”… “حشد شعبي” جديد؟
يُعتبر معقل الجيش السوداني في الشرق المنطقة الأكثر خصباً لتقبّل المدّ الإيراني. فوجود قبائل “البجا” ودعمها للحركة الإسلامية وللجيش يعتبران من أبرز العوامل التي تجعل بورتسودان مكاناً مريحاً وبداية جيّدة للسيطرة على الميناء الاستراتيجي. رئيس المجلس الأعلى لـ”نظارات البجا والعموديات المستقلّة” “محمد الأمين ترك” هو عضو في حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية. وحالياً هو واحد من الموالين للجيش السوداني وللجنرال البرهان.
إضافة إلى البجا هناك الكتائب العسكرية التابعة للجيش ذات الطابع الإسلامي. فمثلاً تشكّل “قوات العمل الخاص” التابعة للجيش، المكوّنة من عناصر سابقين في الاستخبارات، و”الصاعقة” والقوات الخاصة، جماعاتٍ نشطةً في مناطق الشرق والوسط مثل ولايتَي كسلا والخرطوم. ويشارك عدد من الكتائب، مثل “المقاومة الشعبية السودانية في ولاية البحر الأحمر”، ميزة الجمع بين العسكري والسياسي، ولها الميول الإسلامية نفسها.
إقرأ أيضاً: أين الصين؟
تجدّد العلاقة بين طهران وأصدقائها السودانيين القدامى وظهور فئات سياسية وعسكرية تبحث عن سند وداعم وحاضن، قد يمهّدان لظهور قاسم مشترك بين “الحلفاء الجدد” في السودان. والهدف هو تأسيس تشكيل على غرار “الحشد الشعبي”. أو “أصدقاء” على مثال الحزب في لبنان، أو “الجهاد الإسلامي” في فلسطين، أو “أنصار الله” في اليمنر، أو”البوليساريو” في الصحراء الغربية.
الجيش السوداني يريد إغاظة “العرب”
أمّا في ما يتعلّق بالجيش السوداني، فخيار الاتّكاء على إيران وتلقّي الإسناد العسكري منها قد يكون قراراً لقادة محدّدين وليس اتجاهاً عامّاً لدى كلّ القيادة العسكرية. لكن لا يضير هذا الجيش الذي هدفه الأول كسب معركته ضدّ “قوات الدعم” ليس إلّا، الإخلال بالتوازن القائم حالياً على الجبهات عبر دعم المسيّرات الإيرانية. كما لا يضيره التلويح بهذه العلاقة للضغط على واشنطن وبعض الدول العربية لإغاظتهم من أجل إعادة مدّ الجيش السوداني بما يحتاج إليه من دعم.
قد لا يُحدث الدخول الإيراني المستجدّ انقلاباً دراماتيكياً في الوقائع الميدانية، لكنّه حتماً سيفتح شهيّة دول أخرى على دعم مضادّ لجماعات مضادّة، وهو ما يضفي على المشهد السوداني تعقيداً على تعقيد.