صنع الرئيس رفيق الحريري باستشهاده ظهيرة الرابع عشر من شباط 2005 لحظة لبنانية وعربية ودولية فارقة، لم يستطع المجتمع اللبناني النهوض منها إلّا ملطّخاً بوُحول العتب والمأساة بكلّ أشكالها.
وُحول عتب العالم علينا، كشعب لم يصدق بوعد الصمود الذي أطلقه يوم انتفاضة الاستقلال الثاني، وعتب الرئيس الشهيد رفيق الحريري نفسه علينا كمجتمع لم يستثمر بحزمة الأقوال البنّاءة التي أفنى الرجل عمره السياسي يسقيها بالأفعال المضيئة وفتح الآفاق والمجالات بمروحة علاقات عربية ودولية وعالمية هندسها وصمّمها لأجل لبنان وشعبه.
أمّا وُحول المأساة فهي تلك التي تسدّ منذ تسع عشرة سنة من الجريمة النكراء كلّ فتحات النور في جدار الظلام اللبناني، السياسي منه والمذهبي، وبطبيعة الحال الماليّ والاقتصادي، وقد أصبحت ليرتُنا طرفة أو نكتة سمجة نبلسم عبرها بسذاجة أوجاع الزمن الحالي العبثيّ.
صنع الرئيس رفيق الحريري باستشهاده لحظة لبنانية وعربية ودولية فارقة، لم يستطع المجتمع اللبناني النهوض منها إلّا ملطّخاً بوُحول العتب والمأساة بكلّ أشكالها
مؤسف أن لا يبقى فينا من رجل ملأ الدنيا وشغل الناس سوى صدى الغياب، والأفدح من هذه النتيجة أن لا شيء عدنا نحمله إلى الضريح سوى أطلال وأناشيد وهتافات قتلَنا زيفها تسع عشرة مرّة بفعل تجرّؤ الضمير اللبناني على تخلّيه عن قضية تعادل بميزان الدم والأخلاق والإنسانية أهمّ وأبرز المحطّات والاستحقاقات العالمية.
زلزال عتب رفيق الحريري جعلنا بعد تسع عشرة سنة نركن إلى أقرب إطلالة على الحريق اللبناني المفتوح نكتب ونستذكر ونقرأ ونقلّب صفحات ونعيد بعضها ليس من أجل أحد وليس من أجل أسماء تبدّلت وتغيّرت وليس من أجل قامات بدّلت جلودها وألوانها كالحرباء وليس من أجل صدى ساحات.
الإنكار المجرم… والجموح المتوحّش
لأنّه رفيق الحريري نستذكر ونسقط أقوالاً على أفعال ونصفع أنفسنا كلّ يوم كلّما اكتشفنا أنّ الرجل استشرف زلزال عتبه هذا بأقوال وكلمات حذّرت من الجحيم السياسي والمعنوي والمجتمعي والنفسي والماليّ والاقتصادي الذي نعيشه حتى بات الجزء الملآن من كأس الوطن عصيّ على الرؤية.
زلزال يقول لنا: لقد عبثتم بصورة الوطن الجميل والمدينة الحالمة التي رفعناها فوق ركام الحرب بإنكار مجرم وجموح متوحّش.
بكلّ أسف كنّا مجرمين بحقّ أنفسنا يوم فوّتنا الفرص واكتفينا بسرديّات الندامة التي استدعت بغبائها قاتل رفيق الحريري إلى ساحة اعترافه الفجّ والوقح.
هكذا قُتل رفيق الحريري بتفجير 14 شباط 2005، وقُتل بعدها بسلاح الاستقواء على جمهوره وسائر المؤمنين بنهجه ومدرسته.
جريمتنا أكبر من أن توثّقها السنوات التسع عشرة الراحلة ظلماً من عمر وطن كان يمكن أن يكون أحلى وأفضل بوجود الرئيس رفيق الحريري لكنّ النوايا اللبنانية المتذبذبة لم تكن صادقة بالقدر الكافي.
محاولة اغتيال الاعتدال
عمليّاً، قُتل مع رفيق الحريري المؤمنون بالاعتدال فقط، ولهذا ما في أيديهم اليوم سوى الصمت والندب. وأمّا المتذبذبون فلبسوا بعده ألف حلّة وانتقلوا من ضفّة إلى أخرى وُحُولها لا تقتل فعاشوا السنوات المُعفّرة بغبار وشظايا الجريمة رُسلاً على إسفلت الوقاحة.
واقعيون هم المؤمنون بمدرسة رفيق الحريري وأوفياء لزلزال عتابه حتى لو استمرّت هزّاته الارتدادية عقوداً عجافاً آتية.
أجمل شيء نفعله للرجل الذي ملّ في ضريحه سماع جعجعتنا مع قلّة طحيننا أن نصمت وأن نحزن، فبعد تسعة عشر عاماً من العبث الثرثار آن الأوان للحداد أن يعرف وقاره وهدوءه.
إقرأ أيضاً: 19 سنةً على الغياب… هناك يرقد لبنان لا رفيق الحريري
أجمل شيء نفعله أن نضيف في خانة الجرائم التي ارتكبناها ونحن نتخلّى عن رفيق الحريري أنّ التخلّي عن مدرسة الاعتدال سيكون زلزالاً آخر سيمحونا حتماً من سجلّ الأيام والذاكرة والتاريخ والجغرافيا.
للمرّة الأولى، أجد أنّ الحِداد سيُريح رفيق الحريري الباقي في عقول المعتدلين.
هذا أسهل وعد على الأقلّ يمكن الوفاء به في حفلة العبث الرهيبة.