كيف نحاسب سلامة وأصحاب البنوك؟

مدة القراءة 5 د


هل من وسيلة أخرى لمعاقبة أصحاب البنوك من دون أن تضيع أموال الناس؟

هل من وسيلة غير تحطيم واجهات المصارف وإحراق أجهزة الصراف الآلي؟

نعم.

في تجربة الأزمة المالية العالمية 2008 – 2009 ما يرشد إلى ذلك. حينها كان القطاع المصرفي بأكمله في الولايات المتحدة وبريطانيا مهدّداً بالإفلاس. أنشأت الحكومة الفدرالية الأميركية صندوقا أُطلق عليه اسم “برنامج معالجة الأصول المتعثرة (TARP)”، ورُصدت له 700 مليار دولار، أي ما يقارب 5 % من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي في ذلك الحين. ضخّ الصندوق ما يزيد على 420 مليار دولار في ثمانية من البنوك العملاقة مثل “سيتي” و”بنك اوف أميركا” و”ولز فارغو” والبنوك الاستثمارية الكبرى، وحصلت على أسهم مقابل تلك الأموال، وأطيحت رؤوس من الإدارات التنفيذية ومجالس الإدارات. انتهى البرنامج بعد خمس سنوات بربح بسيط للدولة بنحو 15 مليار دولار.

أما في بريطانيا، فكانت العملية الأكبر إنقاذ “رويال بنك أوف سكوتلاند”، التي كلّفت دافعي الضرائب 45 مليار جنيه إسترليني. وتملّكت الحكومة بهذا المبلغ 79 % من رأس المال، لتتقلص حصة الملاك الأصليين إلى 21 % فقط. وحصلت عملية مشابهة في بنك “لويدز”، إذ ضخّت الحكومة 20 مليار جنيه إسترليني وتملّكت 43 % من رأس المال. اليوم، بعد عشر سنوات من ذلك التدخل، استردت الحكومة البريطانية كامل ما ضخّته في “لويدز”، وحصلت على أول 150 مليون إسترليني من توزيعات أرباح “رويال بنك أوف سكوتلاند” في 2018.

المشكلة في لبنان أنّ عمليات الإنقاذ تمت بالفعل خلال السنوات السابقة، لكن من دون إطلاع المواطنين على كيفية التصرف بأموالهم العامة. تكفّل رياض سلامة بإقراض البنوك المفلسة أموالاً شبه مجانية، لتعود وتودع عنده الأموال نفسها بفائدة مرتفعة، ثم قام بهندسات. لم تنقص حصة المساهمين في البنوك نقطة مئوية واحدة، ولم تتملّك الدولة سهماً واحداً، ولم يعزل عضو مجلس إدارة واحد، أو رئيس تنفيذي واحد. تمّ كل شيء في الظلام.

في سنة واحدة (2016) أنفقت دولة مفلسة 5.5 مليار دولار من الهبات المجانية للبنوك، ضمن ما عرف بالهندسات المالية. رقمٌ كان يعادل حينها 12 % من الناتج المحلي. كما لو أنّ الولايات المتحدة أنفقت 1300 مليار دولار قياساً لحجم اقتصادها!

أصحاب البنوك فبوسعهم الاختيار بين ضخّ أموال جديدة للحفاظ على نسب مساهمتهم ومسح خطاياهم، أو تقليص حصصهم والخروج من مجالس الإدارات

تأخّر الحاكم سنوات طويلة قبل أن يشير إلى ضرورة رسملة البنوك من أموال المساهمين. بل إنّه في مقابلته الأخيرة أشار إلى أنّ البنوك التي تفشل في ذلك ستدمج في بنوك أخرى أو تُحال إلى الهيئة المصرفية العليا، لتقرر في شأنها. كان عليه أن يفعل ذلك في 2013 و2014 و2016 قبل أن تقع الواقعة.

ما يجب أن يحصل الآن مختلف. لا بد من إيجاد صندوق على طريقة TARP لإعادة رسملة البنوك ومصرف لبنان. مثل هذا الصندوق اقترحه الوزير السابق ناصر السعيدي وخبراء آخرون لا يخلو لبنان منهم. الخبراء يقدّرون الفجوة بين 20 و25 مليار دولار؛ معلوم لا تملك الدولة أموالاً لذلك، ولذلك لا بد من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي عاجلاً، في عملية شفّافة يعرف فيها المواطنون ماذا استدانوا وأين تذهب أموالهم.

أما أصحاب البنوك فبوسعهم الاختيار بين ضخّ أموال جديدة للحفاظ على نسب مساهمتهم ومسح خطاياهم، أو تقليص حصصهم والخروج من مجالس الإدارات.

ذاك عقاب يكفي الآن إلى أن يأتي زمن الحساب.

لنعد إلى البداية.

ثمّة إشكالية مستعصية في علاقة الناس للبنوك. هي في نظر الشعب مستفيدة من لعبة الفوائد الجهنمية، وتراكم الدين العام إلى حدّ الانفجار، وانتفاخ الثروات لدى ثلّة من الفاسدين المنتفعين. والشعب نفسه لا يريدها أن تفلس لأنّ أمواله محبوسة لديها.

في الأرقام ما يشرح الإشكال. موجودات البنوك بلغت في نهاية تشرين الأول الفائت 262.8 مليار دولار. هذا الرقم يشمل كل ما يمتلكه البنك من نقد وأموال أقرضها للدولة أو للزبائن أو فروع أو كمبيوترات أو شهرة تجارية أو ورق تواليت. لكن هذه الأموال ليست ملك المساهمين في البنك (الملّاك)، بل لا بد من أن تُخصم منها مطلوبات تزيد قليلاً على 240 مليار دولار، ليبقى في رصيد المساهمين 20.6 مليار دولار، أي ما لا يزيد على 7.8 % من الموجودات. (ثمّة رقم تقني يسمى “كفاية رأس المال” يختلف عن هذه الحسبة، وهو ليس موضوعنا هنا، يقيس كفاية الأموال الخاصة بالمساهمين نسبة إلى الأصول الموزونة المخاطر، أي كلّ أصل بحسب وزن المخاطر المحدد له).

ما يعنينا هنا أنّ الأموال والموجودات في هذا الكيان المسمى بنكاً تعود بنسبة 92 % إلى المودعين والدائنين والعملاء. ويعود لأصحاب الودائع دون سواهم ما يعادل ثلثي الموجودات تقريبا (168 مليار دولار بنهاية تشرين الأوّل 2019 على الرغم من انخفاض الودائع بأكثر من 11 مليار دولار خلال 11 شهراً).

لا يمكن لهؤلاء “نظرياً” أن يكونوا سعداء بتحطيم واجهات البنوك شبه المفلسة. فذاك لا يزيد الأمور إلا تعقيداً.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…