قبل أن يستحضر أنور السادات مقتطفات من مقالة ميشال أبو جودة في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي، كان جمال عبد الناصر يُرسل يوميًا طائرة خاصة إلى بيروت لنقل صُحفها. وحين كان يُسأل عن سبب اهتمامه البالغ بالصحافة والسياسة اللبنانية، كان يُجيب: كيف لي أن أفهم ما يجري في المنطقة وفي العالم إن لم أقرأ ما تكتبه صحف بيروت وما يكتبه ميشال أبو جودة كل صباح.
بالتوازي مع هذا النوع من الصحافة والصحافيين، حضرت السياسة بكلّ ثقلها ووقارها وألقها. إستحال كميل شمعون فارس المنابر وفتى العروبة الأغّر، وصار فؤاد بطرس وزير خارجية العرب، وحُظِيَ كمال جنبلاط بمكانة ومهابة تجاوزت ملوكًا ورؤساء جمهوريات، وبقي فؤاد شهاب العسكري الوحيد الذي خضع لقدسية الدستور ورفض تمديدًا ناجزًا في زمن لا يعلو فيه صوتٌ فوق صوت المعركة، فيما ظلّ حكيم بيروت تقي الدين الصلح يُفاخر بعائلته التي باعت جُلّ ممتلكاتها لتصنع سياسة نبيلة، وقد راح آنذاك يردد على رؤوس الأشهاد: دلّوني على حزب في العالم استطاع أن يُخرّج أربعة رؤساء حكومات وسبعة من كبار الكتّاب.
كانت الصحافة رسالةً حين كان الصحافيُ رسولاً. يحمل الهمّ على كتفيه وهو يغوص في مهنة المتاعب. لا يتردّد في حفر مقاله بالسكين متى تحسّس صوابية رأيه ومحورية دوره وعميق تأثيره. ثم ما يلبث أن يكتب بريش النعام كلّما صارت المسؤولية الوطنية جزءًا لا يتجزّأ من قيمه ورسالته ومن نزاهته ونبله وأخلاقه.
وصلنا إلى زمن البذاءة. العفن اجتاح كل شيء وصار العنوان الطبيعي لحالة الترهّل والتصحّر التي أصابت الجماعات
كانت السياسة أيضًا رسالة حين رفض أهلها أن يسلكوا أقصر الطرق نحو ما يشتهون. كان الواحد فيهم رقيبًا على ذاته وممارساته وشبقه، وكان الخروج عن الأصول ضربًا من ضروب الجنون. هذا ليس شعرًا، وليست محاولة للبكاء على الأطلال، هذه حكاية كثرةٍ كاثرة طالما تمسّكت بالحكمة والصبر والاستقامة، ولم تنزلق، حتّى في وحشة الظلم والظلام، إلى ما يمسّ قِيَمها وجوهرها أو ينال من قماشتها وحصافتها ورجاحة عقولها.
ما عادت هذه الروايات تؤتي أُكلها. تحوّلت إلى ما يشبه الزجليّات الممجوجة التي أكل الدهر عليها وشرب. وصلنا إلى زمن البذاءة. العفن اجتاح كل شيء وصار العنوان الطبيعي لحالة الترهّل والتصحّر التي أصابت الجماعات. أصابتهم في مقتلهم، وأفرزت واحدة من أبشع ظواهرهم السياسية والاجتماعية على الإطلاق.
ماذا يكون الشأن العام إن لم يكن منظومةً من القيم والمبادئ والمفاهيم العليا؟ وماذا يبقى من السياسي حين يتحوّل إلى مجرّد ناشط يبحث عن الفتات بين الضغائن والشعبويات والصغائر؟ وماذا يعني أن تصير الدولة مجرّد شركة خاصة والمصلحة العامة مفهومًا مغلوطًا لمجموع المصالح الخاصة للأفراد؟
تستحضر هذه المنظومات خطاب الكراهية كلّما أرادت أن تهرب من فشلها. تستيقظ البغيضة فجأة من سباتها وتسلك طريقها كالنار في الهشيم، فتضرب عرض الحائط كلّ الوقائع والحقائق، وتصوّب بالعصبيات والتفاهة على الأركان التي أردناها ركيزة نهائية بعد مشقة تفيض بالعذابات والتجارب والأوهام، ضمن تركيبة شديدة الدقّة والحساسية والتعقيد.
تعلّمنا، على ما يقول سمير عطاالله، أن نخاف على بلادنا من المكابرين. المكابر لا يسمع ولا يرى. يتطلع في المرآة ولا يرى سوى نفسه. تطوّقه الدهماء بالحماسة ثم بالخنق، لأنّها لا تعرف الفرق ولا يهمها أن تعرف. لم يعِشِ ستالين يومًا واحدًا بعد وفاته. ولم يقرّ ألماني واحد بأنّه كان مع هتلر. وعندما طعن بروتوس القيصر، تأكّدت الجماهير من برودة قدميه، ثم خرجت تهتف للقيصر الجديد.