تحفٌ معروضة للبيع… تخبرنا أنّنا نحن تحفٌ أيضاً

مدة القراءة 5 د


تنتشر في عدد كبير من منصات البيع الإلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي عروض تُعنى ببيع أشياء قديمة تعود إلى فترة السبعينات والثمانينات.

يجتهد المشرفون على هذه الصفحات في وصف ما يبيعونه بأنّها “تحف”، ويتعاملون مع الراغبين في الشراء على هذا الأساس. لكنّ العدد الأكبر من الزبائن لا يبدو معنيّاً بهذا التوصيف، ويصرّ على التعامل الوظيفي مع الأشياء نازعاً عنها مفهوم “التحفة” بشكل كامل.

تعرض إحدى الصفحات مصباحاً يدوياً قديماً من النوع الذي كان يعمل على بطاريتين من ماركات قديمة، كان أشهرها ماركة “ريو فاك”، التي تُستعاد إعلاناتها بين حين وآخر كوثيقة تاريخية في نوع من النوستالجيا إلى زمنٍ مضى، خصوصاً أنّها لم تعد تصنّع، وظهرت بدائل حديثة أكثر فاعلية بدلاً منها.

لا يجد صاحب الإعلان أيّ سبب يدفعه لتحديد ما إذا كان هذا المصباح الذي كان معروفاً في فترة الحرب باسمه الشعبي”البيل” يعمل بالفعل أو لا، لأنّ القيمة الممنوحة له تشتغل في مكان مغاير لفكرة الاستعمال، فهو لم يعد أداة، بل تحوّل إلى تحفة تكمن قيمتها في استحالة استعمالها.

للزبائن وجهة نظر أخرى، إذ إنّ الأسئلة التي تنهال على أصحاب مثل هذه العروض ترفض بشكل كامل الوظيفة الجمالية، وتنسف مفهوم التحفة من أساسه عبر ربط الرغبة في الشراء بالقابلية للاستعمال.

دفع هذا الطلب المتكرّر معظم عارضي مثل هذه الأغراض إلى تغيير كامل لمنطق العرض ومفاهيمه، فكان أن سُحبت من الأغراض القيمة التاريخية، وفكرة القِدَم والنّدرة لصالح العامل الوظيفي. وهكذا تحوّلت إلى أدوات تحف تنتمي في معظمها إلى فترة الحرب الأهلية اللبنانية.

تَبِعت الإعلانات هذا السياق تحت ضغط رغبات الجماهير واحتياجاتهم، فبات التحديد الوظيفي يسيطر، فيقول صاحب الإعلان مثلاً: “بابور كاز” عمره أكثر من ثلاثين عاماً، ولكنّه لا زال يعمل.

للزبائن وجهة نظر أخرى، إذ إنّ الأسئلة التي تنهال على أصحاب مثل هذه العروض ترفض بشكل كامل الوظيفة الجمالية، وتنسف مفهوم التحفة من أساسه عبر ربط الرغبة في الشراء بالقابلية للاستعمال

الأمر نفسه ينطبق على عدد من الأدوات لطالما اعتقدنا أنّها باتت تنتمي إلى عوالم التاريخ والتوثيق والذاكرة.

يخبر هذا الاصرار على نفي فكرة التحفة عن أدوات فترة الحرب أنّ لحظتنا الحالية لا تستعيد زمانها وتفرض على اللبنانيين العيش فيه، لكن في أنّ ذلك الزمن قد تحوّل إلى جنّة موعودة ومشتهاة بالمقارنة مع الواقع الحالي.

يعود ذلك إلى أنّ اللبنانيين يتعلّقون بتلك الوسائل البائدة، ويشترونها بهدف الاستعمال لسبب مادي وآخر سيكولوجي.

السبب المادي هو أنّها رخيصة الثمن مقارنة بالأدوات الحديثة التي يتطلّب استعمالها كلفة كبيرة، وتوفّر شبكة خدمات مرتبطة بالمرافق العامة، وهو ما فقد معظم اللبنانيين صلتهم به كبنية أمان، بل صار مصدراً للخطر والاعتداء، وبات مرتبطا بمفاهيم الألم والتهديد والعذاب.

من هنا يصبح ذلك الضوء الشحيح والقديم الصادر عن “البيل” حقيقياً وآمناً وثابتاً في مقابل كهرباء الدولة القائمة حالياً وشبكة خدماتها، وكذلك يعود بابور الكاز لينتقم من الغسالات الحديثة وأفران الغاز والكهرباء مخبراً عن علاقة سلبية مكتملة الأركان بين الناس والسلطات، وكذلك بينهم وبين الزمن ومظاهر التحديث والتكنولوجيا.

وقد يكون البعد السيكولوجي مرتبطاً بفكرة النجاة التي كانت ممكنة في فترة الحرب بينما باتت حالياً مستحيلة أو شبه مستحيلة.

 احتمال الموت والخراب في تلك الفترة كان محدّداً ومحدوداً ومقتصراً على العنوان الحربي، أي إنه كان يأتي بشكل مباشر وواضح المعالم ومرتبطاً بالمعارك، وما يستخدم فيها من أسلحة، وتالياً، فإن من يتجنّب القصف ويجد لنفسه مكاناً آمناً كانت حظوظه في النجاة مرتفعة.

السبب المادي هو أنّها رخيصة الثمن مقارنة بالأدوات الحديثة التي يتطلّب استعمالها كلفة كبيرة، وتوفّر شبكة خدمات مرتبطة بالمرافق العامة، وهو ما فقد معظم اللبنانيين صلتهم به كبنية أمان، بل صار مصدراً للخطر والاعتداء

الأدوات العائدة من تلك المرحلة تساهم في التعبير عن هذه الإمكانية، وترتبط بها في وقت تتحوّل الأدوات المتطوّرة الحالية في ظلّ انعدام القدرة على تحمّل كلفتها من ناحية، وسوء الخدمات المرتبطة بها من ناحية أخرى… إلى وسائل تعذيب تدعم، بالتماهي مع الأزمات الاقتصادية والأمنية الحادة وفقد الوظائف والأعمال، مفهوم استحالة النجاة، وتجعل من الموت المحتوم فكرة حصرية عن المستقبل.

يعود “البيل” لينتقم من كهرباء الزمن الإلهي المرّ وعهده القوي. يعود لينير ليالي اللبنانيين الحالكة بالسواد، ويؤسّس لعلاقة نفي مع هذا الزمن وعودة نكوصية إلى مرحلة لم يتمّ تجاوزها بعد.

تُستعاد الحرب حالياً بوصفها كارثة ناقصة ومخترقة بوسائل نجاة في حين أنّ الكارثة القائمة حالياً تمثّل فكرة الكمال الكارثي وانعدام فرص النجاة. إنّه الموت وقد تفشّى وانتشر، وحلّ في كلّ تفاصيل العيش.

إقرأ أيضاً: مزاد “الحبّ”: بيروت جوهرة.. وليست منكوبة

ولكن على الرغم من وضوح علامات سريان الموت العام في جسد البلاد، فإن السلطات تصرّ على توصيف المرحلة القائمة بأنّها “سلم”. لكنّ أدوات الحرب الخارجة من رحم التاريخ لتسكن في يوميات اللبنانيين تعود بقوّة لتنتقم من السلم القاتل، خالقةً توصيفاً جديداً للزمن القائم.

الكارثة كانت تستحضر معها بعض وسائل النجاة، ولا تكون مقفلة تماماً، لكن ما بعدها إذا كان مجرّد نتيجة لها، ومبنياً على أساسها، فإنّه لا يسمح بالخروج منها، بل يوسّعها بشكل تصبح معه العودة إليها بمثابة الأمل.

هذا بالتحديد ما نعيشه الآن، وما تقوله لنا تلك العودة المؤلمة للإعلاء من شأن الأدوات المنتمية إلى فترة الحرب.

كانت الحرب كارثة ذات كمال ناقص ومخترق في حين أنّ ما تأسس على تلك الكارثة، وبُني عليها، يعمل على تفجير حدودها على الدوام، ساحباً كلّ وسائل النجاة المادية والمعنوية إلى ثقب أسود، لا حدود لقدراته على تبديد الاقتصاد والأمن، السياسة والعيش.   

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…