كيف يستعيد بايدن دور أميركا في العالم (1/2)

مدة القراءة 11 د

 

بقلم سامنتا باور Samantha Power*/ (فورين أفيرز Foreign Affairs)

*السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة 2013-2017

 

منذ أن وصفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايتMadeleine Albright الولايات المتحدة بأنّها دولة “لا غنى عنها – indispensable” قبل أكثر من عقدين من الزمن، والأميركيون يناقشون هذه المقولة بقوّة كما في أوساط الرأي العام في الخارج. اليوم، مع اقتراب انتهاء ولاية الرئيس دونالد ترامب، يزداد استعمال المراقبين الأجانب للولايات المتحدة كلمة مختلفة: هي أنّ الولايات المتحدة “غير كفوءة” “incompetent”.

ففي الاستجابة للمشكلة الأكثر إلحاحاً في العالم اليوم – جائحة الكورونا المستجدّة – كانت إدارة ترامب أسوأ من أيّ دولة أخرى. وهذا بدوره قد شوّه على نحوٍ مفهوم، جملة تصوّرات عن الولايات المتحدة. فوفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجراها مركز “بيو” للأبحاث مؤخراً في 13 دولة اقتصادية كبرى، وافق 84 في المئة من المشاركين على أنّ الولايات المتحدة قامت بعمل سيء في التعامل مع كوفيد – 19، وهو التقييم الأكثر إدانة الذي يلحق بأيّ بلد أو مؤسسة كبرى. ومع ذلك، فإنّ سوء التعامل مع الوباء هو الأحدث في سلسلة من الثغرات في الكفاية الأساسية، ما شكّك في قدرات الولايات المتحدة، إن لدى الحلفاء أو لدى البلدان التي قد تسعى واشنطن إلى شراكتها في السنوات المقبلة.

وفي ضوء كلّ الانتقادات الموجّهة للسياسة الخارجية الأميركية في السابق، احترم القادة الأجانب والرأي العام في الخارج إلى حدّ كبير استعداد الولايات المتحدة للقيام بأعمال صعبة، كما احترموا قدرتها على إنجاز مهمات صعبة، وهي حجر الزاوية المهمّ للقوة الأميركية التي لم تحظَ بالتقدير الكافي. أما اليوم، فينبغي أن يكون مصدرَ قلق كبير، حقيقةُ أنّ عدداً أقلّ فأقل من الناس يعتبرون اليوم أنّ الولايات المتحدة قادرة على حلّ المشكلات الكبيرة، لأولئك الذين يعتقدون أنّ القيادة الأميركية يجب أن تقوم بدور مركزي في التصدّي لتغيّر المناخ، وغير ذلك من المشكلات العالمية المشتركة، وهي التي تحتاج إلى الخبرة وبناء التحالفات الفعّالة على حدّ سواء.

والأكثر من ذلك، وعلى عكس ما حدث في الماضي القريب، تتمتع الولايات المتحدة اليوم بمنافس قوي على الساحة العالمية، ومن الشائع على نحوٍ متزايد أن نسمع الناس يقارنون بين الحزبية المنهكة والجمود في واشنطن والكفاية القاسية لحكم بكين الاستبدادي. ولكن حتى مع تعثّر الولايات المتحدة بطرق واضحة ومكلفة للغاية، فإن الصين تتحسّس عباءة القيادة العالمية أيضاً. مع تستّرها القاتل على الوباء، ودبلوماسيتها القائمة على التهديد واستعمال القوة، وسياساتها العدائية خارج الحدود الإقليمية، ومقاربتها للتنمية على نحوٍ مثير للجدل، والفظائع التي ما تزال ترتكبها في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقال الجماعي لسكانها المسلمين الأويغور. وهذا الواقع يصنع فرصة للرئيس المنتخب جو بايدن ولإدارته.

إقرأ أيضاً: هل تستجب طهران لشروط بايدن: الصواريخ والنفوذ الخارجي

وسيتعيّن على الرئيس الجديد أن يتعامل مع الرأي الواسع الانتشار بأن الولايات المتحدة – التي ينتمي إليها أكثر من 40 في المائة من جميع الفائزين بجائزة نوبل في السلام والأدب والاقتصاد والكيمياء والطب والفيزياء – لا تملك الكفاءة التي يمكن الوثوق بها في المجالات الرئيسية. ولذا، فإنّ استعادة القيادة الأميركية لا بدّ أن تشمل المهمة الأكثر أساسية، والمتمثّلة في إظهار أنّ الولايات المتحدة قادرة على حلّ المشكلات مرة أخرى.

في ضوء كلّ الانتقادات الموجّهة للسياسة الخارجية الأميركية في السابق، احترم القادة الأجانب والرأي العام في الخارج إلى حدّ كبير استعداد الولايات المتحدة للقيام بأعمال صعبة، كما احترموا قدرتها على إنجاز مهمات صعبة، وهي حجر الزاوية المهمّ للقوة الأميركية التي لم تحظَ بالتقدير الكافي

بعض الأميركيين واثقون بأنّه بعد أربع سنوات من ولاية ترامب، سيسود الارتياح بدرجة كبيرة جداً في العواصم الأجنبية لدرجة أنّ القيادة الأميركية في القضايا الرئيسية ستلقى ترحيباً بسهولة. قال بايدن إنّ أول خطوة له في السياسة الخارجية ستكون استدعاء القادة الأجانب والقول لهم: “لقد عادت أميركا: يمكنكم الاعتماد علينا”. وقد وضع بايدن خططاً لعكس مسار الانسحابات الأميركية من الهيئات الدولية، وإلغاء السياسات الضارة، وإنهاء “الحروب الدائمة”، واستعادة التحالفات. كما تعهّد بإعطاء الأولوية لمكافحة تغيّر المناخ، خارج نطاق التصدّي للوباء وتداعياته، وهي المشكلة الأكثر إلحاحاً لكل دولة في العالم. وستكون أولوية الإدارة الجديدة، حلّ المشكلات في الداخل هي إنهاء الوباء، وبدء مسار التعافي الاقتصادي العادل، وإصلاح المؤسسات الديمقراطية المتوترة.

هناك ثلاثة مجالات ناضجة لمثل هذه القيادة هي التالية: قيادة التوزيع العالمي للقاح كوفيد -19، وزيادة الفرص التعليمية في الولايات المتحدة للطلاب الأجانب، وشنّ حملة بارزة ضدّ الفساد في الداخل والخارج. ومن خلال العمل على نقاط القوة الأميركية، والاستفادة من الثغرة التي أحدثها التجاوز الصيني، سيكون لمثل هذه المبادرات تأثير ملموس على الثقة في الكفاءة الأميركية، وهو الأساس الضروري للإقناع وبناء التحالف اللازم لتعزيز مصالح الولايات المتحدة في السنوات المقبلة.

 

أميركا غير الكفوءة

أدّت المناقشات بين الأميركيين حول كيفية انخراط الولايات المتحدة مع دول أخرى في مرحلة ما بعد ترامب إلى تساؤلات وجيهة حول ما إذا كان من الممكن تصوّر استعادة الثقة اللازمة للقيادة مرة أخرى. سيعيد بايدن الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس للمناخ، وإلى منظمة الصحة العالمية، والاتفاق النووي الإيراني (إذا أمكن تأمين الشروط الصحيحة). وقال إنّ إدارته ستندرج من جديد في مجموعة متنوّعة من المحافل والمبادرات الدولية التي تخلّى عنها ترامب، مثل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والاتفاق العالمي للهجرة. وقد تعهّد بإنهاء السياسات المدمّرة لإدارة ترامب، مثل حظر السفر على الدول ذات الأغلبية المسلمة، وخفض أعداد اللاجئين الأميركيين إلى أدنى مستوياتها التاريخية، وتشتت الأسر عند الحدود الجنوبية، وتوبيخ الحلفاء، واحتضان القادة الاستبداديين. وقد وعد بالاستفادة من العلاقات العميقة التي بناها على مدى أربعة عقود من العمل في السياسة الخارجية لإقناع البلدان في آسيا وأوروبا بأنه يمكن الاعتماد مرة أخرى على واشنطن بوصفها حليفاً لها.

في عام 2009، وهي المرة الأخيرة التي دخل فيها بايدن إلى السلطة التنفيذية، راودنا ونحن جزء من إدارة أوباما آنذاك، مخاوف مماثلة ناجمة عن حرب العراق الكارثية ومسؤولية الولايات المتحدة عن الأزمة المالية العالمية. وقد اتخذ الرئيس باراك أوباما خطوات مماثلة لتلك التي وعد بها بايدن: الانضمام إلى هيئات الأمم المتحدة، ودفع مستحقات الأمم المتحدة، وحظر الممارسات غير الأخلاقية مثل التعذيب، وإصلاح الأضرار التي لحقت بالتحالفات بسبب غزو العراق، والإعلان عن أننا: “مستعدون للقيادة مرة أخرى”. ولكن في حين كانت هذه التحرّكات ضرورية ومفيدة في توليد حسن النية الدولية، إلا أنّ انطباعي الخاص – كشخص خدم خلال السنوات الثماني التي قضتها تلك الإدارة – هو أنّ رصيد الولايات المتحدة لم يصل إلى ذروته إلا خلال عامي 2014-2015، عندما تعزّزت الثقة في القيادة الأميركية من خلال سلسلة من النتائج المرئية.

بحلول نهاية عام 2015، وبينما كنت أسير في أروقة الأمم المتحدة كسفير للولايات المتحدة وأتفاعل مع نظرائي، واجهت مستوى أعلى بشكل ملموس من الثقة في الولايات المتحدة، والحرص على الشراكة معنا أكثر من عامين قبل ذلك.

إن التصوّرات الآن حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة على أنها غير موثوقة وغير منتظمة، هي بالطبع أكثر رسوخاً بعد أن شهد العالم مثل هذا التحوّل الجذري من أوباما إلى ترامب. وعلاوة على ذلك، فإن العرض الانتخابي القوي لترامب، والدعم الذي حصل عليه من الجمهوريين البارزين في محاولاته إنكار فوز بايدن لن يؤدّيا إلا إلى تعميق المخاوف من أنّ التحسينات الملحوظة في السياسة الخارجية الأمريكية سوف تكون عابرة.

 

التجاوز الصيني؟

بالنظر إلى كلّ المخاوف من أنّ الصين سوف تستفيد من تراجع الولايات المتحدة على الساحة العالمية، فإن سجلّ السنوات القليلة الماضية لم يُؤدّ إلى زيادة الثقة في الصين كقيادة عالمية بديلة. ربما كان صعود الصين إلى مصافّ القوة العالمية على مدى العقد الماضي أكثر القصص ثباتاً في العالم، ولكن استطلاعات غالوب وجدت أنّ نسبة التأييد العالمية للصين – أي ما متوسطه 32 في المئة بين أكثر من 130 دولة – لم تتزحزح إلا قليلاً خلال عشر سنوات. كما أشارت استطلاعات الرأي نفسها التي أظهرت تراجعاً كبيراً في تفضيل الولايات المتحدة إلى أنّ الأغلبية في البلدان التي شملتها الدراسة الاستقصائية لديها آراء غير إيجابية تجاه الصين أيضاً، وفي كثير من الحالات، فإن هذه الآراء تزداد سوءاً.

إن التصوّرات الآن حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة على أنها غير موثوقة وغير منتظمة، هي بالطبع أكثر رسوخاً بعد أن شهد العالم مثل هذا التحوّل الجذري من أوباما إلى ترامب

وحتى قبل انتشار الوباء، كان القلق العالمي يتزايد بشأن ممارسات التنمية الصينية، التي كانت تجري على الأخص من خلال حملة بناء البنية التحتية الضخمة المعروفة باسم مبادرة الحزام والطريق the Belt and Road Initiative، وخاصة الفائدة الحادة المفروضة على قروضها الممنوحة للدول النامية.

إقرأ أيضاً: بايدن وحلّ الدولتين: لئلّا يتأمّل الفلسطينيون خيرًا

وهناك جدل حول ما إذا كانت بكين تتبع استراتيجية متعمّدة لـ “دبلوماسية فخ الديون”، ومن الصعوبة تحديد مقدار الديون المستحقة على الصين للبلدان النامية. لكن دراسة أجريت في عام 2019 قدّرت أنّ أكبر 50 متلقياً للقروض الصينية لديهم ديون على الصين بقيمة حوالى 15 في المائة من ديونها العامة، في المتوسط، بعد أن كانت أقل من واحد في المائة في عام 2005. في الأثناء، خسرت أعمال تطوير البنية الأساسية من قبل الصين بعضاً من بريقها، بسبب المخاوف بشأن الشفافية، والتدهور البيئي، وسيل العمال الصينيين الذين استولوا على وظائف كان يعتقد السكان المحليون أنها ستكون متاحة لهم. وظهرت المعارضة العامة لمشاريع الحزام والطريق حتى في البلدان التي تفرض قيوداً صارمة على التعبير عن المعارضة، بما في ذلك كازاخستان، ولاوس، وميانمار.

ومن الطبيعي أنّ كثيراً من البلدان لا تزال ترى فرصة كبيرة في تعميق العلاقات مع الصين. ولكن على مدى السنوات الأربع الماضية، ساءت الآراء بالنظر إلى قيادة بكين في المناطق الحرجة. لكن بالنسبة لبايدن، هذا يوفّر فرصة. ولكي تغتنم الإدارة الجديدة هذه الفرصة، يجب عليها أن تستعيد سمعة الولايات المتحدة في مجال الكفاءة.

 

ساعة الحاجة

إنّ إظهار كفاءة الولايات المتحدة يتطلّب القدرة على القيام بأكثر من شيء كبير في آن واحد – كما فعلت إدارة أوباما أثناء الأزمة المالية، وإنقاذ الاقتصاد الأميركي في الوقت الذي تعمل فيه مجموعة العشرين على توفير أكثر من تريليون دولار من الحوافز للبلدان الأخرى التي تعاني من صعوبات، والمساعدة تالياً في الحفاظ على الاقتصاد العالمي على ما هو عليه. ويمكن للولايات المتحدة أن تنضمّ من جديد إلى جميع الاتفاقات والمنظمات الدولية التي تريدها، ولكن المكاسب الأكبر في النفوذ ستأتي من خلال إظهار قدرتها على تحقيق ذلك في وقت الحاجة القصوى لكثير من البلدان.

وبدءاً من القضية التي عانت فيها سمعة الولايات المتحدة أكثر من غيرها – الوباء – يمكن لإدارة بايدن أن تتصدّر عملية توزيع اللقاحات العالمية بطريقة تذكّر العالم بما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة بشكل فريد. في عهد أيّ رئيس غير ترامب، فإن الحكومة سوف تتسابق بالفعل ليس فقط لإنتاج لقاح للاستهلاك المحلي؛ بل إنها ستتصدّر العالم وفق مخطّط لتوزيع اللقاحات على الصعيد العالمي. ولم يُبدِ ترامب أيّ اهتمام بوصول اللقاحات إلى بلدان أخرى. وإلى جانب بدء انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، رفض بفخر المشاركة في مبادرة “كوفاكس” “COVAX”، وهي مبادرة تضمّ 184 دولة، وتهدف إلى إتاحة ملياري جرعة لقاح في جميع أنحاء العالم، لا سيما للسكان المعرّضين لخطر كبير والعاملين في مجال الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية، بحلول نهاية عام 2021.

لذا ينبغي على بايدن ضمّ الولايات المتحدة إلى الاتحاد الدولي “كوفاكس”، الذي يقع على عاتقه دور رئيسي في التوزيع العادل للقاحات. ومع ذلك، حتى لو مُوّل الاتحاد، وتمكّن من تحقيق أهدافه، فمن المتوقع أن لا يصل الاتحاد إلى سوى ربع سكان العالم بحلول نهاية عام 2021. وينبغي على الولايات المتحدة أن تذهب إلى أبعد من ذلك، وأن تطلق شراكات ثنائية مع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل التي تحتاج إلى المساعدة في الجوانب المعقّدة لتطعيم مواطنيها. وللولايات المتحدة ميزة تنافسية واضحة في هذا الجهد: خبرتها العلمية التي لا مثيل لها، ومدى انتشارها العالمي الذي لا مثيل له.

 

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

 

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…