عون يطحن “الطائف”: أنا حاكمكم الأعلى

مدة القراءة 6 د


مع استمرار الفراغ الحكومي، بين حكومةٍ مستقيلة ورئيسٍ مكلّف، تحوّل القصر الجمهوري إلى مقرّ لإصدار الفرمانات الرئاسية، وبدأ مرحلة تطبيق حلم الرئيس ميشال عون بتحويل الحكم إلى “رئاسي” ولو بواسطة الفوضى الدستورية التي دأب على افتعالها منذ انتخابه، مستغلاً الصفقة الرئاسية واستعداد الرئيس سعد الحريري لتقديم كلّ التنازلات عن صلاحيات الرئاسة الثالثة، حتى غدت قرارات الحكم محصورة بجلسات الحكومة في قصر بعبدا.

منذ انضمام الوزير السابق سليم جريصاتي إلى فريق الرئيس عون في آذار من العام 2013، في إطار مجموعة الستة التي كانت تضمه إلى المحامي كريم بقرادوني والسفير عبد الله أبو حبيب والصحافي جان عزيز ورئيس الرابطة السريانية حبيب أفرام، ثم انفرط عقدها وبقي جريصاتي مستشاراً أول في القصر.. منذ ذلك الحين وهو يراكم تقديم مبرّراتٍ و”دراسات” ومسوّغات للانقلاب على الدستور وعلى اتفاق الطائف في إطار “فلسفة” الالتفاف على النصوص، وليّ أعناقها، واستعمال صلاحيات رئيس الجمهورية للانقلاب على دستورٍ جاء بموجبه إلى الحكم.

كان من أبرز “الأرانب” التي أخرجها جريصاتي من جعبته استخدام المجلس الأعلى للدفاع كمؤسسةٍ رديفةٍ لمجلس الوزراء، في خطوة بدأت ملامحها تظهر بشكلٍ واضح منذ العام 2019، حين بدأ تحويل المجلس منصّةً لإصدار “القرارات”، وتحويل ما يصدر عنه إلى سياسات تنفيذية، في انقلابٍ واضح على الدستور الذي يصنّف هذا المجلسَ استشارياً وهو يُصدر توصياتٍ غير ملزمة، لأنّ السلطة التنفيذية منوطة بمجلس الوزراء بحسب الدستور.

تحوّل القصر الجمهوري إلى مقرّ لإصدار الفرمانات الرئاسية، وبدأ مرحلة تطبيق حلم الرئيس ميشال عون بتحويل الحكم إلى “رئاسي” ولو بواسطة الفوضى الدستورية التي دأب على افتعالها منذ انتخابه

يؤكّد دستوريون أنّ مجلس الدفاع الأعلى هو مجلس استشاريّ يلتئم في حالات محدّدة ويقدم تقارير عن الوضع الأمني بصفةٍ إستشارية، وهو مثل أيّ جهاز في الدولة ينفّذ سياسة الحكومة في المواضيع الأساسية مثل الحرب والسلم، يتم تكليفـُه بمهماتٍ تخضع للقرار السياسي، ووزيرُ الدفاع ينفّذ سياسةَ الحكومة. 

العلامة حسن الرفاعي يقول إنّ المجلس الأعلى للدفاع يخضع حكماَ لسلطة مجلس الوزراء، فالمادة 65 من الدستور تبدأ على الشكل الآتي: “تُناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء وهي السلطة التي تخضع لها القوات المسلّحة”. كما أنّ المادة 49 من الدستور تنص على أنّ رئيس الجمهورية “هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”.

الوزير السابق زياد بارود اعتبر أنّ بعض قرارات المجلس الأعلى للدفاع (المتخذة حالياً) هي من صلاحية حكومة تصريف الأعمال، وأنّ وزير المالية لا يستطيع أن يصرف وفق توصيات المجلس، إلاّ تلبيةً للحاجات العسكرية والأمنية لا غير، وأنّ المجلس لا يستطيع اتخاذ توصيات لها تبعات مالية على الدولة. وكلّ ما له علاقة بالتعبئة العامة التي قرّرها مجلس الوزراء هو جزء من صلاحيات المجلس، إنما أيّ شيء آخر يدخل في صلاحية مجلس الوزراء لا يستطيع المجلس أن يتخذه.

وكان النائب السابق وليد جنبلاط أوضح أمس الأوّل أنّه لا وجود لحكومة تصريف الأعمال، وأنّ عون “يُنشئ حكومة بديلة من خلال المجلس الأعلى للدفاع مخالفاً الدستور، فهذا المجلس لا صلاحية له في أخذ قرارات تتعارض مع (صلاحيات) حكومة تصريف الأعمال، التي يجب أن تتمسك بالدستور”. كذلك قال النائب نهاد المشنوق واصفاً قصر بعبدا بأنّه محتل دستورياً.

ما يفعله رئيس الجمهورية اليوم هو استغلال استقالة الحكومة لتحويل المجلس الأعلى للدفاع إلى مؤسّسةٍ حاكمة تواظب على الانعقاد وتحديد السياسة المالية والاقتصادية والسياسية، ضارباً دور الحكومة التي من واجبها تصريف الأعمال. فإذا بالمجلس المذكور يطلب من وزيري الأشغال العامة والداخلية استكمال تنظيف المجاري والأقنية على الطرقات ومجاري الانهار، ويكلّف وزير المالية السعي لتأمين اعتماد لمساعدة المتضرّرين من انفجار 4 آب، ويكلّف الأمانة العامة لمجلس الوزراء استكمال ملف مشروع قانون لتشركة مرفأ بيروت، ويكلّف وزارةَ الاشغال بإزالة المستوعبات التي تحتوي على موادّ شديدة الخطورة موجودة في المرفأ.

فهل تحتاج الوزارات والمؤسّسات إلى تلقّي الأوامر الرئاسية عبر المجلس الأعلى للدفاع؟ وأين هو دور مجلس الوزراء؟ ولماذا هذا الإصرار على التدخـّل في تفاصيل التفاصيل؟ وهل مواجهة التكلّس الإداري تكون بإصدار الفرمانات الرئاسية على شكل بيانات صادرة عن مجلس دفاعٍ أعلى؟ وأين نادي رؤساء الحكومة السابقين ليتصدّى لهذا “الغزو البعبداوي” لصلاحيات السرايا الحكومية؟

ما يفعله رئيس الجمهورية اليوم هو استغلال استقالة الحكومة لتحويل المجلس الأعلى للدفاع إلى مؤسّسةٍ حاكمة تواظب على الانعقاد وتحديد السياسة المالية والاقتصادية والسياسية، ضارباً دور الحكومة التي من واجبها تصريف الأعمال

هذه الطلبات “الرئاسية” هي لزوم ما لا يلزم، لأنّ الوزارات يفترض أن تقوم بواجباتها، ولها مرجعية محدّدة دستورياً هي رئاسة الحكومة، وما يفعله رئيس الجمهورية هو أنّه يسجّل نقاطاً في الفراغ الحكومي. وإصرارُ عون على التوسع بالتدخل في أعمال الوزارات يدفع للتساؤل: أين كانت هذه الهِمّة والإرادة، عندما وصله التقرير حول وجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت؟ ولماذا لم يتحرّك لتدارك الكارثة قبل وقوعها؟ بينما يتابع الآن أوضاع مجاري المياه على الطرقات.. وهل يستقيم ما يفعله مع ما سبق أن ردّده عن عدم امتلاكه الصلاحيات الكافية للتدخل في المرفأ؟

إقرأ أيضاً: الرفاعي لـ”أساس”: عون أقسم يميناً على دستور لا يقتنع به

راكم عون سلسلةَ مخالفاتٍ يريد أن يجعلها عـُرفاً يرتّب على أيّ رئيس حكومة يتولى هذا المنصب أن يصير مُحاصَراً بالكثير من الهرطقات الدستورية التي تأكل من صلاحياته. وإذا تمكّن سعد الحريري من تشكيل حكومته، فإنّه سيكون مطالباً بتكرار سلوكه السابق الذي فتح الباب أمام أطماع عون الرئاسية التي لا تنتهي خصوصاً أنّ الأخير استطاب الفراغ، وبات يجنح إلى تمديده كونه يسمح له بالإمساك بتلابيب السلطة.

يتصرّف عون وكأنّه يقول لشعب لبنان العظيم: لا أريكم إلاّ ما أرى فأنا حاكمكم الأعلى، وأنتم مخيّرون بين فوضى دستورية وسياسية وأمنية متدحرجة، وبين أخذ الطريق السريع إلى جنّهم مباشرة. 

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تتوغّل جنوباً: هذه هي حرّيّة الحركة!

بعد انقضاء نصف مهلة الستّين يوماً، الواردة في اتّفاق وقف إطلاق النار، ها هي القوّات الإسرائيلية تدخل وادي الحجير. ذلك الوادي الذي كان في عام…

الموقوفون الإسلاميّون… ملفّ أسود حان وقت إقفاله

عاد ملفّ الموقوفين الإسلاميين إلى الواجهة من جديد، على وقع التحرّكات الشعبية المطالبة بإقرار (العفو العام) عفو عامّ لحلّ هذا الملفّ، الذي طالت مأساته على…

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…