زعزعت وثائق شبكة مكافحة الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة الأميركية “Fincen” المسرّبة، أسس النظام المصرفي العالمي. تتحدّث الوثائق عن أدوار مريبة لمصارف عالمية في تمويل الإرهاب والفساد والتجارة بالممنوعات.
لبنانياً، أعادت “Fincen” تسليط الأضواء على قضيّة “البنك اللبناني الكندي”(Lebanese Canadian Bank) المصنّف في خانة المصارف المنخرطة في مجال غسل الأموال. وعلى الرغم من أنّ الحكومة الأميركية صادرت جزءاً من أصول البنك، وبيع جزء آخر لـ “سوسيتيه جنرال (Societe Generale de Banque au Liban-SGBL) إلا أنّ عملية تصفية المصرف لا تزال مستمرّة حتّى اليوم وسط كمّ من النزاعات القانونية والقضائية في الولايات المتحدة الأميركية.
توثّق الدعاوى تورّط أحمد إبراهيم صفا وضلوعه في تسهيل الأعمال المشبوهة من خلال منصبه كعضو مجلس إدارة “اللبناني الكندي”، ومن ثمّ كعضو في لجنة الرقابة على المصارف. ساعد صفا، عبر “اللبناني الكندي”، حزبَ الله في غسل مليارات الدولارات (وهو للمناسبة كان رئيساً لمجموعة الامتثال للإجراءات العالمية لمكافحة تبييض الأموال compliance).
تناول صفا في الصحافة الأجنبية العالمية خلال الأيام القليلة الماضية، ومن قبلها ذكره في تسريبات “Fincen”، مرّ مرور الكرام.
لذا، فإنّ قضية “اللبناني الكندي”، ومن خلالها ارتكابات صفا، تطرح أكثر من علامة استفهام، علماً أنّها ليست موضوع الحديث هنا، وذلك في موضعين:
– أوّلاً: في ما خصّ دور لجنة الرقابة علي المصارف وتضارب المصالح التي تمثّلها.
– ثانياً: في ما يتعلّق بعمل شركات التدقيق العالمية الموجودة في السوق اللبنانية وتحديداً “Deloitte & Touche” و”Ernest &Young”.
توثّق الدعاوى تورّط أحمد إبراهيم صفا وضلوعه في تسهيل الأعمال المشبوهة من خلال منصبه كعضو مجلس إدارة “اللبناني الكندي”، ومن ثمّ كعضو في لجنة الرقابة على المصارف
بالنسبة إلى “Deloitte & Touche” (على سبيل الذكر لا الحصر)، فهي تواجه دعوى أمام محكمة دبي بسبب دورها في انهيار “البنك اللبناني الكندي”. أساس الدعوى التي حرّكها مساهمون في المصرف المنهار جاءت نتيجة طبيعية، لأنّ الشركة “العالمية” المذكورة كانت المسؤؤلة عن التدقيق في حسابات المصرف وفي أرقام ميزانياته. ما يعني أنّ “Deloitte” فشلت في أداء واجباتها كمدقّق حسابي، وعرّضت المساهمين والمودعين للمخاطر، كما أنّها فشلت في الالتزام بالمعايير العالمية، أي النزاهة والاحتراف والموضوعية. ما يعني أيضاً أنّها متواطئة في عمليات غسل الأموال مباشرة.
أما لجنة الرقابة على المصارف، فكثيرة هي التساؤلات التي تدور من حول دورها الذي رافق “اللبناني الكندي”.
تقنياً، تندرج مهمة اللجنة الرقابية ضمن إطار التحقّق من حسن تطبيق النظام المصرفي المنصوص عليه في الباب الثالث من قانون النقد والتسليف على المصارف إفرادياً وفق الأصول المحدّدة في المادتين 149 و150. وتمارس اللجنة صلاحيات الرقابة الممنوحة لحاكم مصرف لبنان ولمصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف، والصلاحيات المعطاة لها بموجب هذا القانون. هذا ويحقّ للجنة أن تضع لأيّ مصرف برنامجاً لتحسين أوضاعه وضبط نفقاته وأن توصيه بالتقيّد به.
بعيداً من الدعاوى والنزاعات والتجاذبات، وفي الحديث عن لجنة الرقابة على المصارف من منطلق تقني بحت، توضح الأستاذة الجامعية والمتخصّصة في القوانين المالية والمصرفية الدكتورة سابين الكيك لـ “أساس” أنّه “في عملية التقييم الكمي للمصارف لا تُعتبر ربحيته دليلاً قطعياً على حقيقته الائتمانية. لذا، من مسؤولية لجنة الرقابة على المصارف أن تتعمّق في التحقّق من سلامة الموجودات وحسن إدارتها، التي تقدّر ربحية المصرف الحقيقية على أساس متوسّط المخاطر والدخل”.
وتتابع الكيك: “زيادة الإيرادات تخفي غالباً التعرّض لمزيد من المخاطر، خصوصاً تلك التي تترتّب على التسليفات وتُعَدّ المؤشّر الأخطر، الذي يفترض التنبّه إليه باكراً. وهنا، نسأل عن غياب لجان الرقابة على المصارف التي تعاقبت منذ بدء ظهور بوادر الأزمة، هذه البوادر المشار إليها بوضوح تام في تقارير رسمية من صندوق النقد الدولي تحت البند 4، منذ سنوات”.
في عملية التقييم الكمي للمصارف لا تُعتبر ربحيته دليلاً قطعياً على حقيقته الائتمانية. لذا، من مسؤولية لجنة الرقابة على المصارف أن تتعمّق في التحقّق من سلامة الموجودات وحسن إدارتها، التي تقدّر ربحية المصرف الحقيقية على أساس متوسّط المخاطر والدخل
وتعتبر الكيك أنّ “أعضاء اللجنة، المخصّصة لهم أتعاب سنوية عالية، كنوع من الحصانة المالية لكي تتمتّع بنوع من الاستقلالية في هذا المنصب الحساس، من واجباتهم أن يتابعوا مكامن الخلل في أوضاع المصارف المالية. لكن عوضاً عن ذلك يسجّل تقاعس غير مبرّر في هذا الإطار، قد يصل حدّ ارتكاب أفعال قصدية وإخفاء معلومات قوّضت سلامة النقد الوطني، وساهمت في إساءة الأمانة المكلفة حمايتها، أي حقوق المودعين”.
إقرأ أيضاً: ما لا تجرؤ عليه السلطة: وقف “السطو” المنظّم باسم الدعم
وتضيف الكيك أنّ “رقابة اللجنة على الأموال الخاصّة للمصرف، والنظر في مدى كفايتها، هو ضرورة لتأكيد صحّة المصرف عموماً وسلامة أموال المودعين خصوصاً، وذلك خوفاً من أن يسبّب العجز لديه بامتصاص رأسماله وصولاً إلى المسّ بالودائع. فاستهلاك المصرف لرأسماله، إما بزيادة الأعباء والمصاريف، أو بسبب الخسائر الناتجة عن المخاطر في موجوداته، قد يؤدي إلى إزالة الأسباب الضامنة لسلامة المصرف، ما يحمّل لجنة الرقابة مسؤولية متابعة مدى إدراك إدارات المصارف اللبنانية خطورة فقدانها كفاية الرأسمال لديها. وهو ما تؤكد تعاميم مصرف لبنان منذ تشرين الأوّل 2019 أنّه منخفض إلى مستويات غير مسبوقة”.
في المحصّلة، يبدو أنّ الأوان قد آن لتجديد تحديد أُطر دور شركات التدقيق المحاسبية، وإن كانت عالمية، والأهمّ تطوير عمل لجنة الرقابة على المصارف عبر تحريرها من هيمنة هذا اللوبي الأسود…