بايدن وروسيا وخارطة العالم (3/3): روسيا تستعيد حدائقها الخلفية

مدة القراءة 7 د


طعم المرارة يمزّق أرمينيا اليوم. بعد 44 يوماً من الحرب على جبهة ناغورنو كاراباخ بين الأذريين وأرمن الكيان المعلن من جانب واحد والمسمى “أرتساخ”، وبعد أن كانت حيلة يريفان أنّ التفاوض يكون بين باكو وبين أرتساخ هذه، حصل ما كان لأيّ مراقب نقدي أن يتوقّعه بشكل أو بآخر في الأسابيع المقبلة: توقيع اتفاق في موسكو، وبرعايتها، بين أذربيجان وأرمينيا، يكرّس ما كسبه الأذريون في هذه الحرب، بما في ذلك مدينة شوشة التاريخية، ويجبر الأرمن على الانسحاب فوق ذلك من لاجين، التي سيطروا عليها للوصل بين الإقليم المتنازع عليه وبين أرمينيا، ويصل الإقليم الكاراباخي المنحسر إذاك ببقية أرمينيا من خلال ممر آمن، كوريدور، يقابله كوريدور حدودي آخر، للوصل بين أذربيجان وبين جيبها نخشوان، غير المتصل بها جغرافياً والتي تفصله أرمينيا عنها. وينصّ الاتفاق على حلول قوة عسكرية روسية في ناغورنو كاراباخ، أي استراتيجياً بات الإقليم قاعدة روسية جنوب القوقاز. تطبيق حرفي لفكرة الحديقة الخلفية التي تشكّلها جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق بالنسبة إلى روسيا الاتحادية. 

كثير من الأرمن هم اليوم ناقمون على موسكو. يتهمونها بخيانتهم لصالح ليس فقط أذربيجان بل تركيا. لكن في الواقع من شأن هذا الاتفاق أن يضعف العلاقة بين أذربيجان وتركيا، ويقرّب باكو من موسكو أكثر. تركيا أدّت قسطها بتسليم باكو مسيّرات بيرقدار الحاسمة في كسب الحرب، وبالطبع هناك خطّا أنابيب الغاز والبترول من باكو إلى تركيا مروراً بجيورجيا. لكن بالنتيجة، بات للروس قاعدة متقدّمة في أكثر الأماكن أهمية استراتيجية من غرب أذربيجان. 

أعقب توقيع اتفاق موسكو هذا مباشرة ذيوع النتائج الأميركية. ليس لأنه رسالة لجو بايدن بقدر ما أنه تمرين تطبيقي روسي منجز. تمرين لم يستوعبه بعد الأرمن ولا الجيورجيون. نيكول باشينيان، رئيس الوزراء الأرمني يقول إنه وقع الاتفاق لأن الخيار الثاني المتروك كان سقوط كاراباخ العليا بأكملها، وأنّ هذا ما طلبه منه الجيش وقادة الكيان الأرتساخي. في المقابل، إنّ من يقود النقمة عليه كوجه للهزيمة كلّ من فلول نظام ما قبل 2018 في يريفان، وحزب الطاشناق، ما يجعل الوضع الأهلي نفسه في أرمينيا على المحكّ. هزيمة يصعب على أرمينيا تجرّعها بصمت وسلام.

كثير من الأرمن هم اليوم ناقمون على موسكو. يتهمونها بخيانتهم لصالح ليس فقط أذربيجان بل تركيا. لكن في الواقع من شأن هذا الاتفاق أن يضعف العلاقة بين أذربيجان وتركيا، ويقرّب باكو من موسكو أكثر

مشكلة الجيورجيين مختلفة. علاقاتهم مع كلّ من روسيا وأرمينيا سيئة إجمالاً. تصادموا مع روسيا في حرب مباشرة عام 2008، نتيجة للحماسة الأطلسية لقيادتهم، ولمسارعتها دون تقدير العواقب للتدخّل في أوسيتيا الجنوبية التي تتمتع باستقلال ذاتي ضمن حدود بلادهم. وروسيا ترعى في جيورجيا كيانين انفصاليين، هما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فيما ارتساخ الأرمنية المعلنة من طرف واحد تقيم مثلاً علاقات اعترافية مع أبخازيا غير المعترف بها دولياً هي الأخرى. وتتسع دائرة استخدام روسيا لهذا النوع من الكيانات إذا نظرنا أيضاً إلى ترنسنيستريا المنفصلة عن مولدافيا، أو إلى جمهوريتي حوض الدونباس في الشرق الأوكراني.

إقرأ أيضاً: عن بايدن وروسيا والقوقاز وخارطة العالم (1/3): خلاف على تحديد العدو

اليوم بات الروس على حدود جيورجيا الشمالية، والغربية (من خلال أبخازيا) لكن أيضاً يحاصرونها من الجنوب، بإمساكهم بناغورنو كاراباخ، وبتقريبهم أذربيجان إليهم، مع إدراكهم طبعاً إلى أنهم سيحلّون ويربطون في الأزمة السياسية وربما الأهلية الأرمنية الموشكة. هذا في حين لم تسلم العلاقات الأرمنية الجيورجية من اتهام أرمني لجيورجيا بارتكاب “إبادة بيضاء” (أي العمل على محو الهوية الإثنية لقوم وليس استئصال هذا القوم) بالنسبة إلى مئتي ألف جيورجي من أصول اثنية أرمنية في إقليم جاواختي.

أسوأ ما يمكن اقترافه، وما يروج عادة في التحليلات الخنفشارية حولنا، هو إما اختزال كلّ شيء إلى ما هو محلي أو إلى ما هو إقليمي، وإما اختزال كلّ شيء إلى ما هو دولي. في حرب القوقاز الأخيرة، هناك جذور إثنو – دينية صميمة للصراع، وهناك سياق إقليمي قوقازي جنوبي، مثلما هناك في الوقت نفسه موقع على خارطة جيبوليتيكية كوكبية في تعريفها نفسه.

 

سؤال الواقعية الجغرافية

تحرّكت روسيا الآن باتجاه جنوب حديقتها الخلفية الجنوبية. في موازاة ظهور تباشير عودة فصل متشنج من العلاقات بينها وبين أميركا. ليس نفوذ تركيا هو الذي توسّع أكثر في القوقاز الجنوبي بعد الحرب الأخيرة، بل نفوذ روسيا، ولو على حساب البلد الذي كان يعتقد أنّه هو حليفها في المنطقة، أرمينيا.

ما قالته روسيا للأرمن: يهمني أن تكون كلّ من أرمينيا وأذربيجان في فلكي. ولتحقيق ذلك ينبغي أن يكون الحلّ على الوجه التالي… لا يمكن أن يقترب الأذريون مني إذا ما كنت سأنحاز للأرمن ضدّهم.

سوء التفاهم المزمن هنا، من الآن فصاعداً، أنّ روسيا تعتبر أنها أنقذت بهذا أعالي كاراباخ من الضمّ الأذري الكامل، في حين يسخط جمهور أرمني واسع بأن روسيا لم تتدخل بشكل حاسم إلى جانب يريفان. وهذا تهويم. في النهاية، إذا كان لا بدّ من مراجعة في أرمينيا، فتتصل بإعادة النظر بمكانها على الخارطة. من يحيط بجمهوريتها؟ أذربيجان، تركيا، جيورجيا، إيران. علاقاتها بأذربيجان، تركيا، جيورجيا، سيئة. علاقتها مع إيران حسنة، لكن إيران تحتاج لاستيعاب نظرة الأذريين داخلها إلى النزاع في جنوب القوقاز، وإلى ما كان في الأصل، من باكو حتى يريفان، جزءاً من إيرانشهر القاجارية. بالنسبة إلى بلد مقفل برياً، ليس له ساحل على بحر، كأرمينيا، وسبيله إلى البحر هو إما جيورجيا وإما تركيا، إن لم يكن المقصود هو بحر قزوين الداخلي، من جهة أذربيجان، فإن السؤال الأساسي الآن هو كيفية التفكير بعلاقة أخرى مع الجيران، فإما أنّ أرمينيا هي بالدرجة الأولى دولة داخلية من القوقاز الجنوبي، وإما هي إقليم قاعدة للدياسبورا الأرمنية عبر العالم بالدرجة الأولى. التعويل على البعد الثاني، على الشتات، لم ينفع أرمن القوقاز في الحرب الأخيرة.

سؤال الواقعية الجغرافية يطرح نفسه الآن بالنسبة إلى شعوب شتى.

من جهة لأن روسيا مصمّمة وماضية قدماً في استعادة التحكّم الاستراتيجي بحدائقها الخلفية، ويتصل بذلك أيضاً الوضع في بيلاروسيا مع اتساع الحركة المناهضة لرئيسها لوكاتشنكو، المدعومة غربياً. والمنتظر أن يتصاعد الدعم لها، أو أن يتصاعد إيمانها بنفسها، مع وصول بايدن (هذا طبعاً إذا تجاوزنا محنة التسلّم والتسليم بين ترامب وبينه). 

ما قالته روسيا للأرمن: يهمني أن تكون كلّ من أرمينيا وأذربيجان في فلكي. ولتحقيق ذلك ينبغي أن يكون الحلّ على الوجه التالي… لا يمكن أن يقترب الأذريون مني إذا ما كنت سأنحاز للأرمن ضدّهم

ومن جهة ثانية، لأن محطات التأزّم الأساسية بين واشنطن وموسكو بعد نهاية الحرب الباردة كانت مع رؤساء أميركيين من الحزب الديموقراطي. كلينتون الذي شنّ الحرب على يوغوسلافيا، الأمر الذي كشف ضعف روسيا الشديد في ظلّ بوريس يلتسن، وعدم تمكّنها من حماية بلد سلافي أرثوذكسي بلقاني من الحرب الأطلسية ضده، وبما أثّر بشكل أو بآخر على نشوب حرب الشيشان الثانية، بكل ما حملته من خطورة تخلع بنيان الاتحاد الروسي نفسه (وهذا هو السياق الأساسي لصعود نجم بوتين في محاولة لمواجهة هذا المسار التصدّعي الوخيم للقوة الروسية). ثم باراك أوباما، مع قيادته المواجهة ضدّ روسيا في إثر ضمّها للقرم، بشكل لم يستطع حتى ترامب من بعده التنصّل منه. والآن بايدن الآتي بإعادة تحديد العدو الجيوستراتيجي والأيديولوجي معاً من جديد على أنه روسيا.

إقرأ أيضاً: عن بايدن وروسيا وخارطة العالم (2/3): إحياء الحرب الباردة

كان العالم في ظلّ ترامب أكثر حبساً للأنفاس، لكنه كان أقل حروبية من عالم أسلافه في البيت الأبيض. العالم نفسه الذي يتنفّس الصعداء الآن لأن ترامب قد لحقت به هزيمة (وهي مرتبطة قبل كورونا، بانقسام جمهوري حوله منذ قمة هلسنكي 2018)، هو في أقل تقدير عالم يتوغّل في منسوب أعلى من المخاطر والتوترات. يبقى أن تقارب هذه المخاطر والتوترات بنظرة توازن بين سياقاتها المحلية الدقيقة والإقليمية المحيطة وبين موقعها من الإعراب الجيوبوليتيكي على خارطة الكوكب ككل، لأن أسهم الجيوبوليتيكا هي التي تعود لترتفع اليوم أكثر مما كان متوقّع لها.

 

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…