مطلع العام 2018، بدأت سوق سندات اليوروبوندز تواجه أصعب فترة في تاريخها. حينذاك خسرت السندات اللبنانية نحو 30% من قيمتها. كلّ من شارك في مضاربات لسندات طرحتها دولة على شفير الإفلاس كان الأكثر تضرّراً. نتيجة لذلك، اتخذت منحىً تصاعدياً مقايضات الـ credit default swap، أي مبادلة مخاطر الائتمان (CDS) على سداد الديون اللبنانية الخارجية. بالتوازي، ارتفع المعروض من سندات اليوروبوندز التي شهدت تقلّبات كثيرة، قبل أن تعود وتسلك مساراً انحدارياً لتتكبّد المصارف خسائر فادحة.
إقرأ أيضاً: 22 تريليون ليرة “ضائعة”… احتكار أم تحضير للّعب بنار الدولار؟!
قبل العام 2016، لم تكن تجارة الـ CDS رائجة لبنانياً. لذا لم يقم كثيرون بشرائها على اعتبار أنّ احتمال إفلاس لبنان منعدم. لم تسترعِ هذه الأوراق المالية الاهتمام، طبعاً إذا استثنينا صنّاع القرار في البنك المركزي ووزارة المال إلى جانب “عدد” من السياسيين وبعض المصرفيين والنواب والوزراء المنخرطين في لعبة اليوروبوندز ومن يدور في فلكهم من خبراء ماليين…كلهم استفادوا، فراكموا أرباحاً بملايين الدولارات من خلال استغلال معلومات سرية (confidential).
يصل سوق مقايضات الديون الخارجية إلى مليارات الدولارات. وقد شهدت أسواق البورصة العالمية حالات تخلّف عن تسديد الديون الخارجية من قبل دول وشركات طوعاً في سبيل تفعيل عقود التأمين المقنّعة هذه
جرت العادة أن يهبّ مصرف لبنان إلى مساندة المصارف كلما وجدت نفسها في مأزق. فكان تارة يبتدع لها الهندسات المالية، وطوراً يساعدها في تغطية خسائر التدنّي في سعر اليوروبوندز. ثمّ يعود ويعيد الكرّة فيسارع إلى شراء دين الدولة السيادي كلما طرحت وزارة المال سندات يوروبوندز في الأسواق العالمية. وبعدها، يعرض على المصارف أن تشتري منه سندات اليوروبوندز بالدولار مقابل نسب فوائد مغرية بالإضافة إلى إطفاء شهادات الإيداع التي تستحق خلال فترة قريبة. كلّ ذلك أنجزه مصرف لبنان المركزي قبل أن يدرك أنّ هذه الحلول، كلها لم تعد نافعة…لذا بدأت عملية البحث عن طرق جديدة ليس فقط لتقليص الخسائر وإطفاء المجازر الرقمية، بل أيضاً لجني الأرباح وتنفيع “بعض” المحظوظين. بهذه الطريقة دخلت مقايضات التخلّف عن السداد الائتمانية على خطّ المراهنات في عالم المال الأسود، بعدما أدّت هذه البدعة دوراً لا يستهان فيه في مفاقمة الأزمة المالية العالمية عام 2009 التي كان لبنان بمنأى عنها.
إنّ مدى قانونية هذا النوع من المراهنات غير قابل للنقاش، تحديداً في خضمّ المضاربات المالية. يصل سوق مقايضات الديون الخارجية إلى مليارات الدولارات. وقد شهدت أسواق البورصة العالمية حالات تخلّف عن تسديد الديون الخارجية من قبل دول وشركات طوعاً في سبيل تفعيل عقود التأمين المقنّعة هذه. فأن يريد المستثمر أو المقرِض استرداد أمواله ليس خطأ في حدّ ذاته، بل إنه أمر منطقي. ولكن في ظروف معيّنة، فإن هذه الاستثمارات دليل على أنّ عالم المال لا يسير على نحوٍ سليم. فالـ CDS أقرب ما تكون إلى عقود تأمين على الحياة. مع المفارقة أنّ عوائدها متأتية من الرهان على “حياة” شخص آخر. (كأن يقوم شخص على سبيل المثال بتأمين حياة شخص آخر، ومن ثمّ يقوم بقتله). بهذه الطريقة، يمكن لمن استثمر في هذه الأوراق أن يدفع الدولة نحو عدم الدفع.
عام 2018، بدأت معالم الأزمة اللبنانية تنكشف، وهو ما ترجمته تقارير وكالات التصنيف الائتماني العالمية. منذ ذلك الوقت، باتت المعادلة كالتالي: كلما انخفض تصنيف لبنان والمصارف ارتفع سعر الـCDS. في هذا السياق لا يكون شراء الـCDS تهمة. وقد تكون فكرة الـCDS مشروعة. و”قد” لا يجوز شَيطنة هذه الآلية في المطلق. لكن، في دولة التآمر على الشعب، يكون الاستثمار في هذا النوع من الأوراق المالية بالارتكاز إلى معلومات سرية من خلف جدران البنك المركزي ووزارة المال حول امتناع الدولة عن السداد، جناية تستوجب فتح تحقيق. وتشير المعلومات التي حصل عليها “أساس” إلى أنّ “سياسيين ومصرفيين لهم ارتباطاتهم مع صنّاع القرار قد استثمروا ملايين الدولارات في هذه السوق فتخطّت الأرباح 2 مليار دولار أميركي”.
لا تكون القضية هنا مسألة شرعية هذه المضاربات من عدمها، بل بالتأكّد من عدم انخراط صنّاع القرار في الدفع نحو خيار الامتناع عن الدفع للاستفادة من سوق الـ CDS على السندات اللبنانية
تقنياً، ليست سوق الـ CDS متاحة للجميع. فشراء هذه الأوراق يتمّ من خلال مؤسسات مالية عالمية. وقد ابتكرت هذه الآلية في البدء كـ hedging (وسيلة تحوّط) لمن اكتتب في سندات يوروبوندز ذات مخاطر ائتمانية مرتفعة. لكن في الواقع، ورغم نفي إمكانية حصول استغلال سلطة للتجارة في هذه الأوراق من قبل البعض، فما يحصل كان كناية عن تسريب معلومات من المصرف المركزي ووزارء المال عن ارتفاع احتمال امتناع لبنان عن سداد مستحقاته الخارجية، ما سمح للبعض بالرهان على إفلاس لبنان وتكديس الأرباح. هكذا بدأت رحلة اللجوء إلى الـ trading houses أي شركات تجارة الأوراق المالية أو البنوك العالمية التي تملك إمكانية الولوج إلى أسواق البورصة بهدف الشراء.
في نيسان 2020، أُثيرت للمرة الأولى مسألة اتجاه المستثمرين الذين يتمتعون بحماية للدين في لبنان إلى اقتسام تعويضات بقيمة 215 مليون دولار بعد تعثر الحكومة للمرة الأولى في تاريخها. وقد كثرت التحاليل حيال رقم التعويضات، فقدّره البعض بـ 400 مليون دولار بما أنّ المؤسسات التي لديها مقايضات ائتمانية في الدولة المثقلة بالديون تحصل على 86% من المبلغ الذي تغطّيه الأدوات. وقد دُفعت مقايضات التخلّف عن سداد الائتمان لحاملي الأوراق. أما الرقم الأقرب إلى الواقع، فهو ملياران من الدولارات. لماذا؟ ببساطة لأنه في سوق سندات يوروبوندز حجمها 31 مليار دولار، فإن الرقم منطقي، خصوصاً وأنّ أوراق الـ CDS تحوّلت في الأشهر القليلة، قبل الامتناع عن الدفع، إلى ساحة مضاربة فاستخدمت للمراهنات السلبية، وليس كتحوّط لاستثمارات السندات.
وعليه لا تكون القضية هنا مسألة شرعية هذه المضاربات من عدمها، بل بالتأكّد من عدم انخراط صنّاع القرار في الدفع نحو خيار الامتناع عن الدفع للاستفادة من سوق الـ CDS على السندات اللبنانية. لا يمكن كشف خفايا هذا الملف إلا في حال راسل القضاء اللبناني الجهات الخارجية لمعرفة هوية من استثمروا في هذه الأوراق، فقتلوا لبنان مالياً، واستفادوا من التعويضات.