في أقلّ من عام، شهد لبنان تاريخين مفصليين وتأسيسيين هما: 17 تشرين الأول 2019 و4 آب 2020.
لا يمكن الفصل حتماٌ بين هذين التاريخين، لأنّ الحدث الثاني، أي انفجار المرفأ، يمثّل بالعمق تجلّياً كارثياً لأسباب اندلاع الانتفاضة، ونتيجة لعجزها عن إحداث أيّ تحوّل سياسي يؤدي إلى تغيير في نمط الحكم.
عدم تحوّل انفجار 4 آب حدثاً مركزياً بالنسبة إلى “17 تشرين”، يعني أنّ الانتفاضة خرجت من الزمن السياسي، واقتربت أكثر من مساحة النوستالجيا.
إقرأ أيضاً: وأخيرًا عثرنا على مليارات ديفيد هايل الـ10 للثورة
والحال، فإنّ “4 آب” كان فرصة لـ”17 تشرين” لتجاوز لحظتها الأولى ولمأزقها المتمثّل بعجزها عن إنتاج دينامية سياسيّة تغيّر قواعد اللعبة التي أدّت إلى انفجار المرفأ، فلا يعود في مقدور الأفرقاء السياسيين الاستمرار في لعبتهم كأنّ شيئاً لم يكن، وإلّا يكونوا قد استطاعوا التّنصل من مسؤوليتهم عن الانفجار الإجرامي.
لم يحصل هذا الفهم السياسي لتفجير المرفأ، وهذا ما أوصلنا إلى المأزق الكبير: مرور حدث 4 آب كأنه لم يكن. فأن يمرّ حدث كهذا كأنّه حدث عادي لا يستلزم ردّات فعل استثنائية، فهذا يعني أنّ “17 تشرين” ماتت كدينامية ثورية تطمح إلى قلب الأوضاع في البلاد
ربّ قائل إنّ “17 تشرين” ليست تنظيماً سياسياً، فلا يمكن مطالبتها بإجراء مراجعات وتحوّلات واعية ومنهجية لكي تتجاوز لحظتها التأسيسية بوصفها لحظة آفلة ومشتهاة في الوقت عينه. لكنّ المسألة هنا ليست تنظيمية، بمعنى أنّها ليست متصلّة بتحوّل ضمن “17 تشرين” كما لو كانت حزباً سياسياً. إنّما المقصود هو فهم حدث 4 آب، فهماً سياسياً خالصاً. أي ربطه باللحظة السياسية بكلّ تفاصيلها، والدفع باتجاه إحداث تغيير سياسي يعدّل موازين القوى في البلد، على قاعدة أنّ انفجاراً كهذا تتحمّل مسؤولية السلطة الحاكمة، وهو يستوجب إسقاطها. وهذا أمر لا يتوقّع أن يحصل بين عشيّة وضحاها، لكنّه مستحيل الحصول من دون صياغة سرديّة سياسيّة متينة، تفنّد أسباب الأزمة، وترتّب الأولويات السياسية وفق قواعد مختلفة عمّا قبل هذا التفجير الإجرامي.
وعليه كان لا بدّ من اتهام سياسي للائتلاف الحاكم بانفجار المرفأ، يتمّ التعبير عنه بلغة سياسيّة واضحة، تماماً كما حصل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حين سارعت المعارضة إلى اتهام النظام الأمني اللبناني السوري باغتياله، وهو اتهام سياسي حضّر الأرضية لانسحاب الجيش السوري من لبنان تحت ضغوط سياسية محلية وإقليمية ودولية.
لم يحصل هذا الفهم السياسي لتفجير المرفأ، وهذا ما أوصلنا إلى المأزق الكبير: مرور حدث 4 آب كأنه لم يكن. فأن يمرّ حدث كهذا كأنّه حدث عادي لا يستلزم ردّات فعل استثنائية، فهذا يعني أنّ “17 تشرين” ماتت كدينامية ثورية تطمح إلى قلب الأوضاع في البلاد. إذ لا يمكن أن يسقط هذا العدد من الضحايا، وأن يحصل هذا الدمار في نصف الجغرافيا البيروتية، وأن تستمرّ بعدها الحياة اليومية كالعادة، والأهم أن تستمرّ اللعبة السياسية على إيقاعها نفسه.
فأن يبقى لبنان من دون حكومة لمدّة شهرين على الرغم من التداعيات الكارثية لانفجار 4 آب، فضلاً عن استفحال الأزمة الاقتصادية والمالية، يعني أمرين: الأول قدرة الأفرقاء السياسيين على الاستمرار في المناورة وتقديم أولوياتهم على الأولويات الوطنية، بمعنى قوّة “النظام” وصموده. والثاني أنّ “17 تشرين” عاجزة عن فرض الأولويات الوطنية على اللعبة السياسية، وهي في هذه اللحظة أولوية تشكيل حكومة، لا لأنّها “ستشيل الزير من البير” كما يقول المثل العامي، بل لأنّ عدم تشكيلها يعني قدرة الائتلاف الحاكم، أي ثنائي “حزب الله” – “حركة أمل” و”التيار الوطني الحرّ”، على التحكّم بالعملية السياسية. وهذا لا يعني القبول بأيّ حكومة لاقتضاء الضرورة تشكيل حكومة، لكن في الوقت نفسه لا يمكن التفرّج على تعطيل تشكيل الحكومة وكأنّه أمر مألوف، أو انتظار تشكيلها ثمّ القبول بها أو الاعتراض عليها. وهذا كلّه دليلٌ على غياب “17 تشرين”.
المعضلة الأساسية التي تواجهها “17 تشرين”، تكمن في أنّ خصومها الذين انتفضت ضدّهم وباتوا لا يجرؤون على السير في الشوارع، ما زالوا حتّى اللحظة، وعلى الرغم من كلّ الوهن الذي أصاب شرعيتهم، قادرين على التعطيل والتحكّم بالمسار السياسي العام
لا ننسى أنّ قدرة “حزب الله” و”التيار الوطني الحرّ” على تعطيل العملية السياسية الدستورية، هي تأكيد على قدرتهما الاستمرار في سياساتهما على الرغم من “17 تشرين” ومن “4 آب”. وهذا بحدّ ذاته هدف سياسي لهما، أي أنّهما يتوسّلان التعطيل كبرهان على نفوذهما. مع العلم أنّ القدرة على التعطيل تتدرّج وفق مراتب. فقدرة “حزب الله” هي الأقوى ما دام يستطيع تعطيل “فيتو” الأحزاب الأخرى متى يشاء، والشواهد على ذلك كثيرة. وهو ما يدفع إلى الاعتقاد أنّ استعصاء تأليف الحكومة مردّه إلى أنّ “حزب الله” يعتبر تشكيلها مسألة ثانوية الآن، وإلا لكانت شُكّلت.
وهنا يكمن التحدّي الأساسيّ أمام “17 تشرين”، أي في السؤال عن قدرتها على إسقاط القدرة التعطيلية للأحزاب. وهذا يتطلّب انخراطاً أكبر في السياسة من قبل الانتفاضة وناسها. وليس المقصود بالانخراط هنا أن يكون تنظيمياً بالضرورة، بل المطلوب انخراط على مستوى الفهم السياسي للأزمة الراهنة، والذي من دونه لا يمكن الانتقال إلى الفعل السياسي الحقيقي.
فالمعضلة الأساسية التي تواجهها “17 تشرين”، تكمن في أنّ خصومها الذين انتفضت ضدّهم وباتوا لا يجرؤون على السير في الشوارع، ما زالوا حتّى اللحظة، وعلى الرغم من كلّ الوهن الذي أصاب شرعيتهم، قادرين على التعطيل والتحكّم بالمسار السياسي العام. إنّها معضلة تتطلّب قبل كلّ شيء وعيها وتفكيكها وإلّا كانت الذكرى السنوية الأولى لـ”17 تشرين” ذكرى عاطفية لا مضمون سياسياً لها!