بينما كانت بيروت تلملم جراح حروب الجميع على أرضها و تبحث عن أشلاء شبابها، دخل عالم المال و العقار إلى بيروت ليغيّر هوية شوارعها و يمحي تراث شبابيكها.
وقتها لم يكن المخطّط واضحاً، في ظلّ مرحلة إعادة الإعمار، لكن فعلياً كانت النتيجة إنهاء دور أهالي مدينة بيروت من المعادلة العروبية والشعبية على امتداد مساحة الوطن، وتحويل شكلها تدريجياً من حاضنة للتجار والمثقّفين والمفكرّين والثائرين نصرة لقضايا الأمة إلى مدينة فاقدة للدور والهوية، يحكمها سماسرة العقار والمشاريع السياسية .
فكانت أولى الخطوات العملية إغلاق بيوتها السياسية وإلغاء دور فعالياتها الشعبية ابتداءً من طريق الجديدة مروراً برأس النبع فالبسطة والنويري وصولاً إلى عائشة بكّار وغيرها من المناطق التي كانت ولّادة للثائرين الغيورين على هذه المدينة. فمن يسيطر على قرار بيروت هو يسيطر على مدن الساحل: بيروت، صيدا وطرابلس .
فالقرار كان واضحاً: “إمّا معنا وإمّا علينا”.
وعلى الرغم من صمود أبناء بيروت بوجه الاجتياح الإسرائيلي وتسطيرهم ملاحم بطولية كانت واضحة في معركة المتحف وسليم سلام، إلا أنّهم لم يصمدوا طويلاً أمام مخطّط شركة سوليدير التي مسحت تاريخ المدينة الحقيقي ثقافياً، اجتماعياً وسياسياً حتّى.
فالمشروع تبيّن بعد مرور سنين طويلةى أنّ ظاهره بناء الحجر لكنّ باطنه ساهم في تهجير أهالي العاصمة الحقيقيين واستبدالهم بتجّار من أصحاب الوكالات العالمية والمشاريع السياحية، التي يهنّىء أصحابها بعضهم البعض على “الشروات” في طول مساحة بيروت وعرضها، ابتداءً من المرفأ وصولاً إلى السان سيمون والسان ميشال …
هنا فعلياً كانت النتيجة ضرب الخزّان الإقتصادي لأهالي العاصمة وضرب حريّة قرارهم في اختيار الأصحّ لتمثيل المدينة. فهاجر الكثير من شباب عائلاتها و”تهجّروا” إلى أطراف المدينة: عرمون، بشامون، خلدة، وادي الزينة…
ومن أسباب هذا النزوح الداخلي بعض العروض المقدمّة إليهم وعدم وجود الوعي الكافي لأهمية بقائهم في أرضهم، ظنّاً منهم أنّ بيروت احترقت وأنّ كلفة إعادة الإعمار لن تقوى عليها مدّخراتهم .
بيروت المنهوبة، التي أحبّت جمال عبد الناصر وناضلت من أجل فلسطين، استفاقت منازلها مجدداً يوم 17 تشرين الأوّل، وبعثت أولى رسائل التململ والانزعاج على إدارة شؤونها يوم دقّت الطناجر وأطلقت صفّارات الإعتراض
أمّا سياسياً فكان معيار تمثيل بيروت يبدأ من الأكثر شهامة والأكثر علماً والأكثر شعبية والقادر على خدمة الناس والأقرب معرفة بهم. لكن في التسعينات تغيّر الحال ليصبح ممثلو بيروت أقلّ وزناً من السابق، مع إقفال البيوتات التقليدية. وربما كان هذا مطلوباً خوفاً من أن يجرؤ أحدٌ على السؤال عن تاريخ أبناء العاصمة ودورهم في تقرير مصير مدينتهم.
مرّت الأيام ولم يعرف البيروتيون، أبناء المدينة الأكثر اعتدالاً على مساحة الوطن، ماذا حلّ بهم، أين تراثهم، أين عزوتهم، أين شهداؤهم، أين دورهم، أين علماؤهم، أين مثقفوهم وشعراؤهم، أين أدبهم ومرجعيتهم، في ظلّ وجود قريب غير عادل، وغريب غير معني بأحوال المدينة.
بيروت المنهوبة، التي أحبّت جمال عبد الناصر وناضلت من أجل فلسطين، استفاقت منازلها مجدداً يوم 17 تشرين الأوّل، وبعثت أولى رسائل التململ والانزعاج على إدارة شؤونها يوم دقّت الطناجر وأطلقت صفّارات الإعتراض لتفتح الحساب مجدداً مع بلديتها ومع نوابها ولتنبش دفاتر الماضي الأليم.
راح أهلها يطلبون من أبنائهم الخروج إلى الطرقات والصراخ عالياً في زواريب الملا وعائشة بكار والصنائع: “يا بيروت قومي قومي، مش رح تبقي محرومي”، على أمل أن تعود بيروت.
نحن جيل 17 تشرين الأوّل نريد بيروتنا لا بيروتهم، بيروت أم الفقير التي تُفرح الأطفال بكزدورة على الكورنيش وبأغنية “علّوا البيادر” من دار الأيتام، وبصوت الطبّال في رمضان وبمسيرة الحيّ يوم المولد النبوي الشريف.
بيروت المحبّة لزائريها وسكّانها وأهاليها وطلابها، بيروت الطبقة الوسطى، بيروت الخيّاط والحدّاد والنجّار، لا بيروت العقار والإسمنت وثقافة الطائفية.
بيروت الدور والهوية، كي تعود عاصمة لبنان والعرب، القوية بشبابها المثقّف، الجميلة، المحبّة ومساحة العاشقين.