تغريدة واحدة يمكنها اختصار جريمة كاملة.
في زمن البؤس، للنكات الموجعة مَطرَحها. هي أصلاً لا تأتي إلاّ من رحم معاناة.
قالها أحد المغرّدين الناشطين في وعاء الثورة: “خمسة بعيون الحاسدين. بس شكلنا أول بلد بالتاريخ رح يستخرج نفط على ضوّ الشمعة”. ليست المعجزة الأولى بالتأكيد ولن تكون الأخيرة. فالدولة الوقحة لا تكفّ عن إغراقنا بالمعجزات. ونحن، الناكرين للمعروف، لا نقدّر جَميلَها.
حفلة الجنون لن تنتهيَ بسهولة. سيدهشنا أولياء أمورنا بمزيد من عروض التخدير حتى يصبح لـ”ضوّ” الشمعة القدرة على فعل الكثير: إدخالنا نادي دول النفط، ردّ السمعة “الطيبة” لمصارف عربدت بأموالنا، لجم هذيان أسعار الفول والحمص والرزّ وحليب الأطفال، وتقديم حصص يوغا للمقهورين المذلولين تهدّئ من روعهم وتطمئنهم حتى لو كان الآتي أعظم…
ماذا بعد مع الدولة الوقحة؟
تكاد تحوّلنا إلى زومبي. يمكن تخيّل ما كان يستحيل تخيّله. جماعات قد “تأكل بعضها”ن كما حذّر سياسيون. التركيبة الحاكمة تبدو كمنّ يتفرّج على عرض سينمائي. لا أبطال فيه، فقط كومبارس على شكل “آكلي لحوم بشر”، من مصارف وسياسيين.
ومنعاً لأيّ التباس، فإنّ مآثر الطائفية تتكفّل اليوم بما لم تظفر بتحقيقه أيام الاطمئنان المالي والإقتصادي. إذ لا تزال الجرثومة الخبيثة تنعَف فينا نعفاً. وإلا لكنّا أمام مشهد آخر تماماً.
لو هُزِمت الطائفية فعلاً لما استكان هدير الشارع، وإن استيقظ يتجسّد بشارعين موالٍ وآخر معارضٍ. لو تلقّت السلطة ضربة قاضية لما كانت “طوابير الذلّ” لا تزال تجتاح المصارف “المسلّفة” للحقوق، وبالقطارة. لما بقيت مافيات السلطة على عروشها. لما وُجِد من لا يزال ينظّر اليوم في جِنس الحكومة: سياسية. تكنوقراط. تكنوسياسية. سياسية لايت. حكومة جديرين. لا، لا اختصاصيين. تمهّلوا حكومة تكنوقراط بعصب سياسي كي لا “يُدعوِسُنا في الشارع”… وأخيراً وصفة “معلّم” تتوّج كل هذا الضياع: حكومة تتماهى مع المتغيّرات المصيرية في المنطقة والعالم مطّعمة بوزراء تقنيين مع سياسيين أصحاب خبرة في استيعاب لا وعي العالم السائر نحو الحرب. وصفّ كلام لمعجزة “قيد المحاولة”: حكومة انتقالية لأشهر مطلوب منها حلّ كارثة تحتاج إلى عقود من الزمن.
وعلى شاكلة التنصّل من مسؤولية الكارثة التي نتمختر صوبَها، كلّ بمقدار من المسؤولية، من شعب يمالق ولا يحاسب ومافيا سلطة سرقت حتى التقيّؤ، يتنصّل أهل القرار من قرار الانتقال من وزراء، شكا يوماً رئيس الجمهورية من “توافرهم” فقط على سطح القمر، إلى وزراء يمثّلون العصب السياسي “ما غيره”، المفترض “شدّه” في مواجهة حرب مفترضة في المنطقة.
جولات الاعتراض والصراخ من قبل المتظاهرين هنا وهناك تبدو كمن “يُداعب” السلطة، يُزكزِكُها
من المسؤول عن رمي قنبلة حكومة الوجوه السياسية؟ لا جواب. الجميع بريء من التهمة، وإن كانت حاجة المرحلة برأيهم، وبريء أيضاً ممّا وصل إليه اللبنانيون من نَدبٍ على الحال.
على هذا المنوال لن نتوقع من “الدولة” الوقحة سوى جولات أخرى من استنزاف الأعصاب لتأمين ولادة حكومة فاشلة سلفاً. يكفي أنّ شدّ الشعر لا يزال يدور عند قعر الحقيبة والحجم والثلث المعطل ولم يصل بعد الى البرنامج وخطة العمل.
التسوّل المذلّ عند أبواب المصارف، وجنون الدولار. عملة الكهرباء النادرة والبنزين المقطوع، على الأرجح، قريباً، ومجدداً. العمليات البطولية التي ينفّذها بعض المقهورين داخل البنوك… بلد منهوب ومكسور ومديون وبلا فيول يتحوّل في لحظة إلى مرآب كبير لسيارات بلا وقود. كلّها عناوين إثارة للسلطة العاقر لكي تمعن في بَطشها.
يحصل ذلك في لا مبالاتها المذهلة في عدم فعل شيء. بين الرئيس مصرّف الأعمال والرئيس المكلّف. بين رئيس الجمهورية المفعم دوماً بالأمل ورئيس المجلس المتشائم. وبين الحاكم المالي والمصارف الحاكِمة. بين هيئات الرقابة وهيئات المحاسبة لا درب سوى باتجاه الهاوية. ثمّة من يروّج لبصيص أمل بأنّنا لم نصل إليها بعد لمجرد فقط عدم إعلان المصارف إفلاسها.
دولة تقديس الدين العام والعجز عن خفضه لا تأبه بتحوّل المضاربين إلى أسياد السوق وأصحاب المصارف إلى آكلي مدّخرات العمر. لم تعد المشكلة هنا. “السيستم” من جذوره عاطل وموبوء ولا “نَوى” منه. لا أمل إلاّ بالرهان مجدداً على الشارع.
أين الملايين؟
جولات الاعتراض والصراخ من قبل المتظاهرين هنا وهناك تبدو كمن “يُداعب” السلطة، يُزكزِكُها… وهي “تُقهقه” وينتهي الأمر. كلام حاكم مصرف لبنان الأخير وحده كفيل بإشعال بركان ثورة. نحن الـ”زومبي” سنتكفّل ببعض على الأرجح. إلاّ إذا حصلت المعجزة الفعلية. والحقيقية حين يُرسَم مصير الشعوب: تقبع نظام لتكلّل آخر مكانه.