لا أحد من الأطراف السياسية الوازنة يرغب في نسف قواعد اللعبة الداخلية التي تحصّنت على مدى سنوات طويلة بجدران صلبة تمنع سقوطها أو انهيارها. ولا أحد أيضًا يريد قلب الطاولة بوجه الآخر، ليس انطلاقًا من ضعفه أو قلّة حيلته، بل استنادًا إلى مصلحته وحفاظاً على حضوره في تركيبة الدولة والنظام، وهي مصلحة تنتظم ضمن سلسلة من الحلقات المترابطة والمتواصلة، وأيّ كسر قد يطال حلقة منها سيعني حتمًا اهتزاز المعادلة أو سقوطها برمتها.
تكليف حسان دياب جاء من خارج سياق التوازنات والتسويات المسبقة، أقلّه في الشكل، حيث بدا على نحو نافر أن فريقًا سياسيًا بعينه أقدم على دعمه وتسميته، وهذا ما شكل ضربة قاسية للأعراف المستجدّة، وأسّس لسابقة يُمكن الاستناد إليها في أيّ استحقاق مقبل، لا سيما ما يتعلق بتطبيق الميثاقية بنسختها المشوهة وبنظرية حكم الأقوياء في طوائفهم.
سارع سعد الحريري ومعه غالبية نواب السنّة إلى سحب الغطاء الشخصي والسياسي عن الرئيس المكلّف عبر الامتناع عن تسميته، وهذا إجراء طبيعي ومفهوم ولا بدّ منه. ثم عاد وأطلق سلسلة من المواقف القاسية التي تستهدفه وتستهدف حكومته قبل تشكيلها، على اعتبار أنّها حكومة جبران باسيل، وذلك مفهوم أيضًا في سياق إصراره على الاحتفاظ بكرسي رئاسة الحكومة، خصوصًا بعد سقوط رهانه المضمر على احتراق دياب سريعًا في الشارع. وهذا ما لم يحدث انطلاقًا من أسباب كثييرة، ليس أقلّها إقدام تيار المستقبل على إشعال المناطق السنية تحث شعارات مذهبية تسبّبت بحرج وضرر بالغ للحراك الوطني والمطلبي الذي انفجر على مساحة كل الخريطة اللبنانية.
مسارعة الكثرة الكاثرة من القوى والفعاليات السنية إلى استهداف دياب ساهم على نحو كبير في إرساء هذا الواقع وترسيخه، وفي الدفع نحو حرق كل الشخصيات المطروحة انطلاقًا من انعدام ميثاقيتها المذهبية، ما أعطى أريحية مطلقة لسعد الحريري باعتباره المرشّح الوحيد المؤهل لرئاسة الحكومة، أو الممرّ الإلزامي لتسمية أيّ مرشح، بعيدًا من المسار الدستوري واللعبة الديمقراطية التي كانت يجب أن تُشكل حجر الزاوية وقطب الرحى في أيّ حراك سني، وأن يستند الرفض حصرًا إلى الخلفية السياسية للتكليف، وإلى ما قد ينتج عنه لاحقًا، من شكل الحكومة إلى مضمونها وشخصياتها وبيانها الوزاري.
في موازاة كلام بري، ومن خلفه قطعًا حزب الله، لا بدّ من إعادة صياغة المواقف السياسية والوطنية
الجميع بات يعلم، ونحن قطعًا من العالمين، أنّ جزءًا أساسيًا من الودّ والانسجام الذي تعاظم بين سعد الحريري وحزب الله في السنوات الأخيرة، يعود إلى لامبالاة الحريري وتفريطه بحزمة كبيرة من الثوابت الوطنية مقابل الحفاظ على موقعه. لكنّ العلاقة بينهما أخذت مسارًا مختلفًا ومدمّرًا عقب انسلاخه عن حاضنته الإقليمية وارتمائه الكامل في أحضان حزب الله. وهنا تمامًا تكمن المشكلة الأساسية معه، ولا بدّ من التذكير بها على الدوام، على اعتبارها السبيل الوحيد لإنعاش الذاكرة المثقوبة، ولتصويب الجنوح العشوائي نحو ارتصافات أو مواقف سياسية بلا طائل أو أفق.
أمس اقتنص نبيه برّي اللحظة السياسية المناسبة داخليًا وخارجيًا وراح يُمهّد لعودة سعد الحريري من باب “حكومة لمّ الشمل”، وهي لحظة تتزامن مع متغيرات كبيرة في المنطقة عقب قتل قاسم سليماني وما تمخّض عنه من دفن الحراك الإيراني وإخماد الثورة العراقية وتراجع زخم الانتفاضة اللبنانية، معطوفة على صلابة استثنائية أظهرها الرئيس المكلّف في تشكيل حكومته، ما يعطي انطباعًا مؤكدًا عن رغبة متعاظمة بالعودة إلى المربع الأول، عبر إعادة تعويم المعادلة الداخلية التي دمرت الحياة السياسية على مدى السنوات الماضية.
في موازاة كلام بري، ومن خلفه قطعًا حزب الله، لا بدّ من إعادة صياغة المواقف السياسية والوطنية استنادًا إلى ثابتتين: الأولى رفض إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 17 تشرين، إنطلاقًا من تعويم سعد الحريري وإعادته من باب التكليف والتأليف أو من نافذة تصريف الأعمال، والثانية التوقف عن الاستهداف العبثي للرئيس المكلف ومطالبته بإنجاز حكومة اختصاصيين مستقليين، على أن يتبلور الموقف النهائي من دعمه أو مواجهته عقب تقديم تشكيلته الوزارية.