مع الدخان الأسود المتصاعد من مرفأ بيروت، رحت أتذكّر لحظة أقسم رئيس الجمهورية ميشال عون اليمين الدستورية في مجلس النواب اواخر اكتوبر من العام 2016. تذكّرت، وهي لحظة لا تُنسى عندما صحّح له الرئيس نبيه بري قوله، خطأً، “أحلف باسم الله العظيم”، بتصويبها إلى “أحلف بالله العظيم”، ثم أكمل عون قسمه: “إني أحترم دستور الأمّة اللبنانية، وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه”. ثم صفّق له بري، مضمّناً تصفيقه شيئاً من سخرية العارف المبطّنة، بأنّ شيئاً من هذا القسم لن يتحقّق، وبأن عون سينكث بكلّ حرف فيه.
إقرأ أيضاً: لبنان مزدحماً بالزوّار: التاريخ ساعة رملية!
تذكرتُ هذه اللحظة مع الدخان الأسود، ومع شريط أسود من الذكريات القريبة لما آلت إليه أحوال بلادنا في عهد ميشال عون. تذكّرت اللحظة، وفي بالي العودة إلى خطاب القسم لمحاولة تقييمه، ومقارنته كنصّ نظري، مع ما طبّقه عون في الواقع.
هذا المقطع، يمكن لأيّ كاتب “ستاند أب كوميدي” ان يأخذه كما هو ويلقيه على الجمهور، بل على من نجا (بالمصادفة) من شعب لبنان العظيم، وهذا كفيل بإماتة الناجين من الضحك
حينما عدتُ إلى نصّ الخطاب وجدتني أمام كوميديا سوداء، لا يعرف المرء إزاءها ضحكاً او بكاء. ففي الخطاب يقول عون: “إن لبنان السائر بين الألغام لا يزال بمنأى عن النيران المشتعلة حوله في المنطقة. ويبقى في طليعة أولوياتنا منع انتقال أيّ شرارة اليه”. هذه الجملة تصير سوريالية مع إسقاطها على ما وصلت إليه الأمور. فعون الذي كان يرى في لحظة انتخابه أنّ من مهامه وواجباته تجنيب لبنان انتقال نيران المنطقة إليه، سينطبع عهده إلى الأبد بالنار التي أشعلها الفساد والإهمال والمحسوبيات والانتهازية، ففجّرت مرفأ بيروت ودمّرت المدينة وقتلت العشرات وجرحت وشرّدت الآلاف، من دون شرارات خارجية، بل بنار صناعة “وطنية” و”حرة” مئة في المئة.
وبأناه “الأمونيومية” التي تكاد تنفجر لشدّة انتفاخها، يطمئن عون اللبنانيين بأن من يخاطبهم “رئيسٌ أتى في زمن عسير، ويؤمل منه الكثير في تخطّي الصعاب وليس مجرّد التآلف والتأقلم معها، وفي تأمين استقرار يتوق إليه اللبنانيون كي لا تبقى أقصى أحلامهم حقيبة السفر”.
هذا المقطع، يمكن لأيّ كاتب “ستاند أب كوميدي” ان يأخذه كما هو ويلقيه على الجمهور، بل على من نجا (بالمصادفة) من شعب لبنان العظيم، وهذا كفيل بإماتة الناجين من الضحك. حتى من تسنّى لهم تحقيق أقصى احلامهم، وهاجروا، ستلحقهم النكتة هذه إلى بلاد الانتشار، وتقتلهم من الضحك. لا مفرّ.
فالاستقرار الذي وعد به عون، بات تحت أنقاض العهد المنهار، في عداد المفقودين، ولا يبحث عنه أحد، ولا حتى كلب.
أما فيما يتعلّق بالاصلاح الاجتماعي – الاقتصادي، فقد أقسم عون في خطابه، أنه “لا يمكن له أن ينجح إلا بإرساء نظام الشفافية عبر إقرار منظومة القوانين التي تساعد على الوقاية من الفساد وتعيين هيئة لمكافحته، وتفعيل أجهزة الرقابة وتمكينها من القيام بكامل أدوارها”.
آخر نكتة من خطاب القسم، يُنصح بتجنّبها لمن لا قدرة له على احتمال نوبات الضحك الهستيري. لا يزال بإمكانكم أن لا تقرأوها، وتعتبروا المقال انتهى عند هذا الحدّ
لو تسنّى لمرفأ بيروت، في هذه الجزئية، مع ما يعانيه من آثار انفجار “الشفافية ومكافحة الفساد وتفعيل أجهزة الرقابة”، لو تسنّى له ان ينطق، لتحامل على أوجاعه وقال للرئيس على طريقة الإخوة المصريين وبلكنتهم: “ضحّكتني وانا عيّان”. أما أموال المودعين التي تبخّرت، وسعر صرف الليرة أمام الدولار الذي يحلّق عالياً، ومئات آلاف اللبنانيين الذين يرزحون تحت خط الفقر في أسوأ ازمة اقتصادية يشهدها لبنان في تاريخه، فليس أمامهم، إزاء هذا المقطع إلا البكاء والدعاء.
آخر نكتة من خطاب القسم، يُنصح بتجنّبها لمن لا قدرة له على احتمال نوبات الضحك الهستيري. لا يزال بإمكانكم أن لا تقرأوها، وتعتبروا المقال انتهى عند هذا الحدّ.
أنا أحذّركم. ستؤلمكم خاصراتكم.
هذا إنذار أخير لانني سأنقلها الآن بحرفيتها: “ويبقى الأهم اطمئنان اللبنانيين إلى بعضهم البعض، وإلى دولتهم بأن تكون الحامية لهم والمؤمّنة لحقوقهم وحاجاتهم، وأن يكون رئيس الجمهورية هو ضامن الأمان والاطمئنان”.
“مهضوم” رئيس جمهوريتنا، أليس كذلك؟