قدّم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعميمان (567 و154) على أنّهما خطة إعادة هيكلة المصارف وإحيائها. “تعميمان” كانا كفيلين بإظهار مغالطات حاكميّة مصرف لبنان القانونية ومدى تجاوزها لصلاحيات السلطتين التشريعية والقضائية. وإذا كان التعميم 567 القائم على نسف عشرات التعاميم السابقة، مختبئاً خلف إعادة تنظيم عمل القطاع، إلا أنّ واقع التنفيذ سيرتطم بمئة عقبة وعقبة، خصوصاً أنّ المصرف المركزي قد استفاق بشكل مباغت، وهو الذي كان يدرك كلّ تجاوزات المعايير المصرفية العالمية بدءاً بالـ IFRS9 وصولاً إلى بازل. وعليه، يكون التهديد بإخراج كلّ مصرف لا يلتزم بزيادة رساميله من السوق، مجرّد حماية للمصرفيين بدلاً من صَون المصارف كمؤسسات مالية ضرورية لدورة اقتصادية سليمة.
إقرأ أيضاً: دعاوى نيويورك… تنظّم “آخرة” النظام المصرفي!
أما التعميم 154، فينصّ على أن يقوم كلّ مصرف بتقييم عادل لموجوداته ومطلوباته، بالإضافة إلى “حثّ” العملاء الذين قاموا بتحويل أكثر من 500 ألف دولار إلى الخارج من تموز 2017 (وحتى اليوم) أن يودعوا في حساب خاص مجمّد لـ 5 سنوات ما يوازي 15? من القيمة المحوّلة على أن يعيد رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف وكبار مساهميها بالإضافة إلى السياسيين: 30? من أموالهم المحوّلة. يهدف القرار إلى تعزيز سيولة المصارف لا سيما لدى مراسليها في الخارج. إلى ذلك، يحرّر التعميم المصارف من التقيّد بسقوف الفوائد المحدّدة في تعميم صادر منذ بضعة أشهر.
المصرف المركزي لا يتمتع قانوناً بصلاحيات تشريعية بموجب قانون النقد والتسليف بدليل الكتاب الذي أرسله سلامة إلى وزير المالية أواخر العام 2019 لطلب إعطائه صلاحيات استثنائية في معرض العمل لإقرار قانون الـ “كابيتال كونترول”
والأبرز، هو ما يتضمّنه التعميم لناحية تحويل الودائع إلى أنواع مستحدثة من السندات، ما قد يُسجّل في حال تطبيقه ابتكاراً جديداً لحاكميّة البنك المركزي. أما كلّ من يتقاعس عن التنفيذ، فسيتوجب عليه مجابهة اتهام تبييض الأموال…
في هذا السياق، نشر المحامي زياد بارود ملاحظاته الأوّلية حول التعميم 154، وفيها اعتبر أنّ المصرف المركزي لا يتمتع قانوناً بصلاحيات تشريعية بموجب قانون النقد والتسليف بدليل الكتاب الذي أرسله سلامة إلى وزير المالية أواخر العام 2019 لطلب إعطائه صلاحيات استثنائية في معرض العمل لإقرار قانون الـ “كابيتال كونترول”. أما المحامي الدكتور نصري دياب، فاعتبر بدوره في ورقة أعدّها أنّ “التعميم مخالف للقوانين جملة وتفصيلاً، أولاً لأن مصرف لبنان حاول خلق جرم جزائي، وهو أمر محصور بالمشترع قسراً، ومن ثَمّ أعطاه مفعولاً رجعياً، وهو ما لا تسمح به دساتير العالم أجمع ليكون بذلك قد خالف أبسط القواعد القانونية. هكذا، فإنّ أيّ عملية مفروضة بالقوة تعتبر باطلة (Nulle)، وكأنها لم توجد أصلاً (Inexistante)”.
بذلك، تطرح قضية صلاحيات حاكم البنك المركزي وسبل مساءلته لناحية إخلاله بمواد قانون النقد والتسليف خصوصاً وأنّ ما يُشاع عن إلزام قانون النقد والتسليف لمصرف لبنان بإقراض الدولة غير صحيح. فالمادة 88 من قانون النقد والتسليف للمركزي تنصّ على أن “يمنح الخزينة بطلب من وزير المالية تسهيلات صندوق لا يمكن أن تتعدّى قيمتها عشرة بالمئة من متوسط واردات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها، ولا يمكن أن تتجاوز مدة هذه التسهيلات الأربعة الأشهر”. وتسمح المادة 91 “في ظروف استثنائية الخطورة إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي أن تحيط حاكم المصرف علماً بذلك. حينئذ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة، وخاصة الحدّ من تأثيره في الوضع الذي أعطي فيه على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية”.
تعاميم مصرف لبنان بطبيعتها تنظيمية، وإجرائية، وإدارية، وتطبيقية، ملزمة طالما أنها صدرت: ضمن الصلاحيات الممنوحة للمجلس المركزي والحاكم، وضمن إطار قانون النقد والتسليف، ولا تتعدّاه لتطال قوانين أخرى
عن الموضوع، توضح الأستاذة الجامعية والباحثة في القوانين المالية والمصرفية الدكتورة سابين الكيك أنّ “قانون النقد والتسليف ترك موضوع صلاحيات الحاكم المركزي مرنة حرصاً منه على تأمين إطار قانوني متناغم مع طبيعة العالم المصرفي وما يتطلّبه من إجراءات عملية ومتابعة دورية. لكن مخطئ من يظنّ أنّ المرونة تعني صلاحيات مطلقة لا حدود لها. هنا، فإنّ المفهوم القانوني لفلسفة الأنظمة النقدية والمصرفية واضح المعالم. وما يصفه البعض بصلاحيات واسعة، هو في جوهره مسؤوليات كبيرة. وفي ظلّ أزمة عميقة كالتي نشهدها اليوم، وعلى مستوى المصرف المركزي بالتحديد، أصبحت المخالفات القانونية لا تعدّ ولا تحصى، بدءاً من الحاكمية مروراً بالمجلس المركزي وصولاً إلى لجنة الرقابة على المصارف.
أما بشأن المحاسبة، فيختلف الأساس القانوني لذلك. ففي مسألة إقالة الحاكم بموجب المادتين 19 و 20 من قانون النقد والتسليف عند ارتكابه خطأ إدارياً، يبدأ الأساس القانوني من تحديد المرجع الصالح، والجهة صاحبة الصفة، وتعريف طبيعة المهمّة المكلّف بها، وتعيين حدودها، وإثبات المخالفات.
لذا، فإنّ أولى التعديلات الواجبة على قانون النقد والتسليف، لا بدّ أن تطال دور المصرف المركزي بما يتلاءم مع الواقع المصرفي الصحيح، صلاحيات الحاكم وسبل مساءلته عن أخطائه الوظيفية والمسلكية، المدنية والجزائية نظراً لأهمية هذه المهمة وتأثيرها على الصالح العام النقدي والمالي والمصرفي.
أما فيما يتعلّق بلجنة الرقابة على المصارف، وإن كانت لا تتمتع بشخصية معنوية، إلا أنّها ليست تابعة مباشرة وتنظيمياً إلى مصرف لبنان، فهي وُجدت أصلاً لتكون جهازاً رقابياً مستقلاً قادراً على متابعة وضع المصارف للوقاية من أزمات تعثّر مالي. وفي هذا الإطار، يمكن البحث عن مسؤولية الدولة في أعمال لجنة الرقابة وفق المهمّة المكلّفة بها.
وتضيف الكيك: “تعاميم مصرف لبنان بطبيعتها تنظيمية، وإجرائية، وإدارية، وتطبيقية، ملزمة طالما أنها صدرت: ضمن الصلاحيات الممنوحة للمجلس المركزي والحاكم، وضمن إطار قانون النقد والتسليف، ولا تتعدّاه لتطال قوانين أخرى، خاصة المبادئ العامة أو ما يعرف بالنظام العام، وضمن أهداف تأمين الصالح العام للتماشى مع طبيعة الصلاحيات الممنوحة امتيازاً لمصرف لبنان كمرفق عام، وهنا يتجلّى الصالح العام بالحفاظ على النشاط الاقتصادي والسعي إلى نمو مستمر، عن طريق تأمين سلامة النقد الوطني، وحماية حقوق المودعين لصون القطاع المصرفي، وتنفيذ سياسات تسليفية سليمة”.
باختصار، التعاميم التي تتضمّن بنوداً تخالف ما سبق، إن لناحية كونها تفرض قواعد جديدة لها طابع التشريع، أو لناحية تناقضها مع المبادئ العامة الدستورية أو القانونية، تعتبر غير ملزمة وأحياناً كأنها لم تكن.