10 أعوام و80 محاكمة مدنيّة استغرقتها قضيّة مصرف “BNP Paribas” الفرنسي. بعد كلّ هذه السنوات من النزاعات القضائية، قرّرت المحكمة إدانة المصرف بجرم استغلال العملاء، وغشّهم عن سابق تصوّر ومعرفة. وإذا كانت وثائق “FinCEN” المُسرّبة مؤخراً، قد نجحت بكشف الدور المريب لمصارف عالمية في تمويل الإرهاب والأنشطة المشبوهة، وتأمين استمرارية الفساد والأنظمة الاستبدادية عبر غسل الأموال القذرة، وأظهرت وظائف دفينة للـ”مصرف” في النظام المالي العالمي، فلا شكّ أنّ الدعوى الفرنسية هذه قد فضحت أخيراً الممارسات “الخادعة” التي انتهجتها بنوكٌ على مدى أعوام.
إقرأ أيضاً: شركات على “مرفأ” الإفلاس…”التأمين” على مين؟
ترتكز قضيّة “BNP Paribas” المعروفة باسم “Cetelem” إلى ارتكابات المصارف التي احتالت على الناس، فأخفت المخاطر الحقيقية لقروضها العقارية ذات الفوائد المنخفضة، لكن المتحرّكة والمرتبطة بمؤشرات خارجية ومخاطر مرتفعة بين العامين 2008 و2009، خصوصاً قروض الـ”Helvet Immo” المقوّمة بالفرنك السويسري والقابلة للتسديد باليورو، وذلك على حساب أكثر من 4600 مقترض. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه لم يسبق أن تعرّض بنك فرنسي لمثل هذه الإدانة باستثناء “Crédit Lyonnais” الذي عانى من سوء الإدارة، فأفلس عام 1993.
قضية “BNP Paribas” أطلقت كثيراً من نقاط الاستفهام التي تصيب الجهاز المصرفي المحلّي لناحية اللجوء إلى أساليب ملغومة مشابهة. فنتيجة سياسة اجتذاب الأموال بفوائد عالية وخيالية خلال السنوات الماضية، حوّل القطاع المصرفي لعبة مؤشرات الفوائد إلى الداخل (السوق المحلية)
في هذا السياق، رسّخت محكمة الاستئناف أواخر الأسبوع المنصرم، حكم المحكمة الجنائية، وأكدت قابلية تنفيذ إدانة شركة “BNP Personal Finance” التابعة لـ”BNP Paribas”. أُمِرَ البنك بدفع 150 مليون يورو كتعويض إلى 2532 فردًا من ضحايا قروضه بالفرنك السويسري.
فعندما سوّق المصرف لهذا المنتج “product”، كان الفرنك السويسري مقوّمًا بأقل من قيمته، ما أدى إلى إذابة قيمة رأس المال المفترض سداده بمجرّد تحويله إلى اليورو. لكن سرعان ما تعافت العملة السويسرية، وعادت إلى مكانتها كملاذ آمن بحيث لامس سعرها حدود قيمة الذهب، فرأى المقترضون كيف تضخّم حجم قروضهم خلال الانهيار المالي العالمي.
قضية “BNP Paribas” أطلقت كثيراً من نقاط الاستفهام التي تصيب الجهاز المصرفي المحلّي لناحية اللجوء إلى أساليب ملغومة مشابهة. فنتيجة سياسة اجتذاب الأموال بفوائد عالية وخيالية خلال السنوات الماضية، حوّل القطاع المصرفي لعبة مؤشرات الفوائد إلى الداخل (السوق المحلية). فاستُعيض عن المؤشرات الدولية، وتُرك تحديد نسب هذه الفوائد إلى جمعية المصارف عبر مؤشر “Beirut Reference Rate”، وأصبحت بالنتيجة تكلفة تمويل القروض عالية قياساً على مؤشرات الأسواق العالمية. ذلك أنه كلما ارتفعت تكلفة توفير السيولة على البنك، ارتفعت تلقائياً تكلفة الاقتراض على المستهلك، طالما أنّ الحصول على السيولة في الفترات السابقة كان باهظاً في لبنان بعد أن فقد القطاع المصرفي السيولة النقدية نتيجة استثماراته وانكشافه على الدين العام، وهو ما أخضع العميل المقترض في الأسواق المحلية إلى أسعار فوائد عالية ومتغيّرة.
الأستاذة الجامعية والباحثة في القوانين المالية والمصرفية الدكتورة سابين الكيك تذكّر بأنّه “قبل بضع سنوات اعتمدت المصارف اللبنانية آلية مبتكرة لاحتساب سعر الفائدة على قروض الأفراد، وهي آلية مؤشر الفائدة المتغيّر. وتضمّنت العقود عدداً من النقاط في احتساب إجمالي مبلغ التمويل وتكلفة الأجل (قيمة الفوائد المترتبة على القرض نسبة إلى المدة المحددة لاسترجاع الأموال إلى المصرف)، وشروط تحديد تكلفة الأجل وشروط تغييرها ( أي إجمالي التكاليف السنوية للقرض مع قياس مختلف معدلات الفائدة خلال المدة المحددة)، والمؤشر المرجعي (أي المرجعية المحتسبة لاحتساب سعر الفائدة) المستخدمة في تحديد تكلفة الأجل وشروط تغييرها. إلاّ أنّ تقدير إجمالي مبلغ التمويل بات صعباً في نظام متغيّر لاحتساب الفائدة. لذا، من الضروري دراسة هذه العقود في ضوء الواقع المصرفي الحالي، وذلك للتحقّق من مدى استيفائها الشروط القانونية، بعد أن اتّضح عدم أهلية المصارف اللبنانية للثقة الممنوحة لها، خصوصاً في موازاة قضية “BNP Paribas”، وما أثبتته من لجوء البنوك لأساليب “مصرفية مخادعة” تجعل العميل والمستهلك العادي غير قادر على اكتشافها أو التنبّه لها، فيما نتائجها الاقتصادية عليه كارثية”.
تحاول المصارف ممارسة ضغوطات تعسّفيّة لدى استيفائها القروض، وهي تُطلق على هذه المخالفات تسميات وهمية، منها “المصاريف” أو “الفوائد” أو “العمولات” أو “المعدلات” أو “المؤشرات”
بلغة أبسط، فإنّ العقود ببن المصارف والعملاء تضمّنت عدداً من النقاط في احتساب إجمالي تكلفة تمويل القروض، أي الكلفة التي تحمّله إيّاها المصارف كلّما استدان منها.
الإشكالية الأساسية بحسب الكيك، أنّه “بتطبيق مؤشر الفائدة المتغيّر، ينقلب عبء المخاطرة الناتجة عن أسعار الفائدة من البنك إلى المقترض، وذلك لأنّه في القروض ذات معدل الفاىدة الثابت، تكون مخاطر أسعار الفائدة على عاتق المصرف، بمعنى أنّه في حال ارتفعت أسعار الفائدة بشكل كبير، فإنّ صاحب القرض لا يتأثر بذلك، لأنّ سعر الفائدة ثابت ومحدّد مسبقاً في العقد، وكانت تحاول المصارف سابقاً إضافة نسبة معيّنة لسعر الفائدة الثابت تحسّباً لأيّ متغيّرات مستقبلية. مع استخدام مؤشر فائدة متغيّر ضمن سقوف دنيا وعليا يحدّدها المصرف كممتهن ومحترف تناسب أهدافه الربحية المرجوة، وخاصة في القروض الطويلة الأجل، مثل القروض السكنية، وقع العميل المقترض فريسة تبدّل أسعار الفائدة العالمية، وهو غالباً ما يجهل تقنياتها وتشعباتها.
فمع اندلاع الأزمة النقدية، وتدهور سعر العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، وفي خضم القيود التعسّفية المطبّقة من المصارف على المودعين وصولاً إلى حدود منعهم من استعمال أموالهم في عمليات مصرفية اعتيادية وطبيعية، تحاول المصارف أيضاً إلقاء عبء مخاطر سعر الصرف على العملاء المقترضين. وفيما تدفع البنوك التزاماتها بالعملة الوطنية بدلاً من الدولار الأميركي، تحاول جاهدة العبث بكلّ المفاهيم القانونية المصرفية من خلال إصرارها بالأساليب الملتوية كافة، وبتغطية من مصرف لبنان بتعاميمه الباطلة لتجاوزه حدّ السلطة الممنوحة له، الانقلاب على المبادئ التي ترعى العمل المصرفي السليم”.
وتضيف الكيك: “لكنّ الأهمّ في هذه الظروف الاستثنائية، التأكيد على عدم جواز تحميل العميل المقترض، المستهلك العادي أو الشركات والمؤسسات، مخاطر تقلّبات سعر الصرف، أولاً لأن المصارف وإداراتها ومساهميها هم وحدهم من استفاد من أسعار الفوائد والربحية الخيالية، وثانياً لأن الطرف الجدير بالحماية هو العميل المقترض كونه الطرف الأضعف الذي أذعن لإرادة الأقوى اقتصادياً بحيث استُغلّت حاجته لتمويل شراء مسكن أو سيارة. وثالثاً لأن مصرف لبنان كان قد احتسب معدّلات النسب النظامية لديه على أساس سعر الصرف الثابت على 1515، وتالياً على أساس مخاطر التسليف المبنية على القدرة الائتمانية للعميل في تسديد القرض”.
بعد الإطاحة بمدّخرات اللبنانيين، مقيمين ومنتشرين، تحاول المصارف ممارسة ضغوطات تعسّفيّة لدى استيفائها القروض، وهي تُطلق على هذه المخالفات تسميات وهمية، منها “المصاريف” أو “الفوائد” أو “العمولات” أو “المعدلات” أو “المؤشرات”. كلّ ذلك، والسلطة القضائية الموكلة بمهمة إحقاق التوازن العادل بين الحقوق وضمان مصلحة الفئات الأضعف، غير معنيّة بما يجري من حولها.