“الحزب” في مستوى الجريمة: #من_قتلناه_يستحق!

مدة القراءة 5 د


لم يكن منتظراً أن يكون ثمّة وقعٌ سياسيٌ لحكم المحكمة الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ذاك فصلٌ انقضى مع صدور القرار الظني وانكشاف الحقيقة قبل تسع سنوات. المهم اليوم ما يستقرّ في ضمير العامّة.

قامت المحكمة الخاصة بلبنان لهدفين: الحقيقة والعدالة. لم تحقّق المحكمة العدالة ولن تحقّقها، لكنها كشفت قدراً من الحقيقة يكفي لتهشيم ضمير “حزب الله” المستتر في سطور الحكم. وذاك إنجاز تستحق من أجله المحكمة كلّ ما بُذِل من أجلها.

إقرأ أيضاً: الضاحية استمعت إلى الحكم: نظر إليّ مصطفى بدر الدين وابتسم

لغة القضاة ليست خطاباً سياسياً يسهل على العامة استهلاكه، بل ليس من المعتاد أن يكون القضاة نجوم الشاشة الذين يهرع إليهم النقل المباشر. إنهم بتعبير رمزي نجار “السكون” في مقابل “الحركة” التي يمثّلها الإعلام. هؤلاء مهمّتهم فرز الحقائق التي لا يرقى إليها الظنّ، ويبقى للعامّة بعد ذلك أن يستقرّ في وعيهم ما يستقرّ.

ما الذي نعرفه الآن بعد حكم المحكمة؟

نعلم على وجه اليقين أنّ شبكة من مجهولي الهوية راقبت رفيق الحريري وقتلته، وأنّ واحداً من هؤلاء هو سليم عياش، المنتمي إلى “حزب الله”، وأنً ّعصبة الأشرار عمدت إلى شراء شاحنة الميتسوبيشي وخطوط الهاتف المستخدمة في الجريمة من طرابلس، دون سواها، للتمويه. بقية الأسماء تفصيل.

أزمة “حزب الله” اليوم مع حس الناس السليم الذي يعلم أن شبكة القتل برمتها تنتمي إليه

كشفت المحكمة وجود المجرمين يقيناً. كشفت كيف تحرّكوا، وكيف اشتروا خطوط الهاتف والشاحنة المتفجّرة، وكيف راقبوا موكب الحريري، لكنّها أبقتهم أرقاماً ملوّنة، لعدم كفاية الأدلة على هوياتهم، لسبب واضح، هو عدم تعاون “حزب الله” مع التحقيق. لا يهمّّ. لن يتغيّر شيء في يقين العامّة إن كان اسم قائد المجموعة مصطفى أو سامي أو أيّ اسم آخر، ولا يهمّ إن كان حسن العنيسي أو أسد صبرا أو أيّ شخص آخر قد علّق شريط أبوعدس على الشجرة، أو اتصل بقناة الجزيرة، أو أوقع بأبي عدس في مسجد الحوري. الأسماء لا تهمّ. فليظلّوا أرقاماً ملوّنة، فجميعهم اسم واحد، في حزب واحد.

وفوق ذلك، هناك من قرّر القتل، وهناك دافع سياسي للقتل، بجزم المحكمة. ذاك قرار اتخذته جهة سياسية إذاً، ليس مهمّاً أنّ المحكمة لم تقع على أدلة مادية أو ظرفية لتحديدها بالاسم. الناس تعرفها.

يكفي اللبنانيين من المحكمة هذا. البقية يفهمها الناس بحسّهم السليم، من الضاحية الجنوبية إلى الطريق الجديدة، فالأشرفية، فالمتن، فطرابلس. عندما يثبت للناس، من دون ذرّة شك، أنّ عصابة على هذا القدر من التنظيم والسرية والإمكانات المادية والاستخباراتية فعلت كلّ هذا، وأنّ أحد أعضائها ينتمي إلى “حزب الله”، ويحظى بحمايته حتى الساعة، فإنّ للناس، بحسّهم السليم، أن يقدّروا أنّ شركاءه في عصبة الأشرار ينتمون إلى “حزب الله”.

احتفال الضاحية ببراءة العنيسي وصبرا ومرعي تعني أن ناس “حزب الله” يثقون في أعماقهم بأن المحكمة لم تقل إلا الحقيقة

أزمة “حزب الله” اليوم هي مع حسّ الناس السليم، في داخل جمهوره وخارجه. أزمته هي مع احتفال الناس في الضاحية ببراءة العنيسي وصبرا ومرعي، لأنّها لا تعني سوى أنّ ناسه يثقون في أعماقهم بأن المحكمة لم تقل إلا الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك، حتى وإن نصروه ظالماً أو مظلوماً. يعلم أنّ ناسه يعلمون أنّ شبكة القتل تنتمي برمتها إلى “حزب الله”، ويدركون أنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ من دون علم قيادته، أو من دون علم إيران.

في مواجهة ذلك، يُصدِّر الحزب وعياً بائساً بأنّ الموقف من القتل يتوقف على هوية القاتل. في الساعات القليلة قبل الحكم، تصدّر “تويتر” هاشتاغ #من_قتلناه_يستحق، مع دفقٍ من الصور لمصطفى بدر الدين. ثم بدا مقدار التشويش الذي يحمله الهاشتاغ، فانبرى عدد من مناصري “حزب الله” للتحذير منه، باعتبار أنه يثبت التهمة على الحزب الذي يتبرّأ منها، وأعطاه آخرون تفسيراً مغايراً يربطه بوفاة العميل عامر فاخوري في الولايات المتحدة.

وقبل ذلك، برز هاشتاغ #سلمت_يداك في أيلول من العام 2018، مع بدء المرافعات النهائية للإدّعاء أمام المحكمة. حينها غرّد ناشطون في الجيش الإلكتروني لـ “حزب الله” بأنّ اتهام بدر الدين بقتل رفيق الحريري هو اتهام للحريري بالعمالة لإسرائيل!

كشفت المحكمة وجود المجرمين وأبقتهم أرقاما ملونة… لا تهمّ الأسماء لأنهم جميعا اسم واحد في حزب واحد

نجح “حزب الله” في حجب الأدلة وحماية المتهمين، وقد تنجح استراتيجيته الدعائية في شدّ العصب وتبرير القتل، لكنّها تهشّم المصداقية التي بُنيت عليها صورة نصر الله في وعي جمهوره. لن ينسى الجمهور خروج نصر الله بعد الاغتيال مباشرة، وفي مناسبات كثيرة تالية، ليتبرّأ من مجرّد الخلاف مع رفيق الحريري، ولن ينسى خروجه في المؤتمر الصحافي الشهير بتاريخ 9 آب 2010، ليقدّم القرائن على ضلوع إسرائيل بالجريمة. في ذلك المؤتمر بالذات، أقرّ نصرالله بأنّ فريقا من الحزب كان يراقب المسارات التي كان يسلكها موكب الحريري قبل أشهر من اغتياله، وبرّر ذلك بأنّ الحزب “كان يتابع عميلاً إسرائيلياً”!

لم يعد مهمّا العثور على أدلة جنائية للربط بين اعتراف نصرالله ذاك وبين الشبكات التي كشفتها المحكمة.

نزل الحزب من عليائه المتخَيَّل إلى درك الجريمة.

هذا يكفي الآن.

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…