بيروت تواجه الاغتيال الثالث باللحم الحيّ… لا حقيقة دون تحقيق دولي

2020-08-06

بيروت تواجه الاغتيال الثالث باللحم الحيّ… لا حقيقة دون تحقيق دولي


خلال العقود الأربعة الماضية، مرّت على بيروت ثلاثة أحداث كبيرة: الاجتياج الإسرائيلي في العام 1982، اغتيال رفيق الحريري في العام 2005 بما يزيد عن طنّ من المتفجرّات، والتفجير المروّع في مرفأ بيروت بما يزيد عن 2700 طنّ من “نيترات الأمونيوم”.

إقرأ أيضاً: الآثار الاستراتيجية لانفجار بيروت: تغيير جذري في قواعد الاشتباك

هذا لا يمكن أن يكون بشكل من الأشكال قَدَر بيروت. فبيروت المدينة البحرية المعجونة بالتجارب الإنسانية، وبالتنوّع الثقافي، واختبارات الحياة بين الأديان والطوائف. بيروت العاصمة الكوسموبوليتية التي حافظت على خاصّيتها تلك بالرغم من كلّ ما مرّ عليها من حروب ومآس. هذه البيروت قَدَرها الفرح والحياة وليس الموت. قَدَرها البحر، والصيّادون، والناس، والشوارع المكتظة، وليس أطنان المتفجرات و”نيترات الأمونيوم” المكدّسة بالفساد، والإهمال، والحكم المختلّ، والعبث الأمني، والميليشيات. بيروت قَدَرها أن تحيا، وأن تكون مدينة مطلّة على المتوسّط وعلى العالم مع كلّ ما تعنيه هذه الإطلالة من معانٍ حضارية وإنسانية.

ما حمى بيروت من الاغتيال الثاني الذي كان معدّا لها باغتيال رفيق الحريري هو التحقيق الدولي في جريمة كان يُراد منها “تكسير لبنان على رأس رفيق الحريري” حيّا أو ميتاً

ما حصل في بيروت الساعة السادسة من مساء الثلاثاء ليس قَدَراً. إنّه جريمة. والعدالة تقضي بأنّ يتحمّل المجرمون مسؤولية جرائمهم وأن يحاسبوا على أساسها.

في العام 1982، قاومت بيروت ولم ترفع الراية البيضاء. فهم الإسرائيلي أنّ اغتيال هذه المدينة مستحيل، وأنّ أهلها الذين لا يحبّون السلاح حملوه للدفاع عن مدينتهم وعن أنفسهم… حتّى خرج الإسرائيلي من العاصمة اللبنانية مردّداً “نحن منسحبون لا تطلقوا النار علينا”.

ثمّ في العام 2005، انفجرت شاحنة الموت برفيق الحريري الرجل الذي أعاد رسم بيروت بالألوان على الخريطة، فكان اغتياله محاولة ثانية لاغتيال بيروت. لكنّ المدينة قاومت، وركبت قارب نجاتها في بحر هائج كاد يغرقها مرّات ومرّات. لكنّها غالبت الغرق، وغالبت السقوط وما استسلمت لكارهيها.

وتشاء المصادف (هل من مصادفات؟) أن تقع المحاولة الثالثة لاغتيال بيروت عشيّة صدور الحكم النهائي في جريمة اغتيال رفيق الحريري. وهل يشكّ أحد أنّ الحقيقة في هذه الجريمة ما كانت لتظهر لولا مطالبة المعارضة “المجتمع الدولي بتحمّل مسؤوليته تجاه لبنان الوطن الأسير والدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية تضع اليد على هذه الجريمة في ظلّ انعدام ثقة اللبنانيين بهذه السلطة وأجهزتها كافة”.

إذاً، فإنّ ما حمى بيروت من الاغتيال الثاني الذي كان معدّا لها باغتيال رفيق الحريري هو التحقيق الدولي في جريمة كان يُراد منها “تكسير لبنان على رأس رفيق الحريري” حيّا أو ميتاً. لكنّ الحقيقة والعدالة حمتا المدينة وجنّبتاها الثأر والانتقام بالرغم من الغضب.

والسؤال اليوم: كيف تُحمى بيروت من الاغتيال الثالث؟

كما في 14 شباط 2005، فإنّ إنقاذ بيروت وحمايتها تبدأ بمعرفة حقيقة ما حصل مساء الثلاثاء الأسود، لتحديد المسؤوليات والشروع في محاكمة المرتكبين. لكن من الجهة التي يفترض بها أن تتولّى هذا الأمر؟ إذ ليس خافياً أنّ ثمّة أسئلة كثيرة تطرح في بيروت من جانب أهل الاختصاص عن جدوى تشكيل مجلس الوزراء “لجنة تحقيق إدارية لإدارة التحقيق في الاسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة، والطلب من السلطة العسكرية العليا فرض الاقامة الجبرية على كلّ من أدار شؤون تخزين نيترات الأمونيوم وحراسته…” وتجميد حسابات إداريين في الجمارك وإدارة المرفأ.

المطالبة بلجنة تحقيق دولية، قد بادر إليها أولّا “لقاء سيدة الجبل” و”حركة المبادرة الوطنية” ظهر الأربعاء الذي شارك فيه للمرة الأولى النائب نهاد المشنوق

يحصل ذلك في وقت عبّر اللبنانيون المضرجّون بدمائهم وعلى الملأ، على شاشات التلفزة وفي الشوارع المدمرّة، عن عدم ثقتهم بالسلطة ولا بأجهزتها، تماماً كما أعلنت المعارضة عشية جريمة اغتيال الحريري عن عدم ثقتها بالسلطة وأجهزتها.

تشكيك الجرحى، والذين دمّرت بيوتهم من جرّاء الانفجار، ليس آتياً من سراب أو من رغبة في اتهام السلطة وأجهزتها لمجرّد الاتهام. فهؤلاء المتضرّرون، لا طموح سياسياً أو وظيفياً لهم بما يجعلهم يتهمون السلطة بالتقصير للحلول محلّها. إنّهم مواطنون يعاينون يومياً حال البلد وسلطته، ويعرفون جيداً طبيعتها وكفاءتها. ولذلك، هم سارعوا إلى اتهامها وتحميلها المسؤولية. كيف لا ووجود كلّ هذه الأجهزة الأمنية والمدنية في المرفأ لم يَحُل دون بقاء هذه المواد الشديدة الانفجار في مكانها حتّى انفجرت؟ وإذا كانت الأجهزة الأمنية – أو بعضها – قد أبلغ السلطة القضائية أو/و السياسية بحقيقة خطورة مخزون العنبر 12، ولم تحرّك هذه الأخيرة ساكناً، فكيف يمكن الوثوق بالجهتين وقتذاك: الأجهزة نفسها، والسلطة سواء القضائية أو السياسية؟ السلطتان هاتان لأنهما ما تحرّكتا وفق ما تقتضيه خطورة الأمر المعروض عليهما، والأجهزة الأمنية والمدنية لأنّها تغاضت عن عدم تصرّف السلطتين المذكورتين بما توجبه حراجة المسألة. أوليس التقدير الأول لخطورة تخزين هذه المادة شديدة الإنفجارعائداً لها؟ ولنفترض أنّ السلطة السياسية والقضائية متواطئة، هل تسكت هذه الأجهزة تحت حجّة أنّها قامت بمسؤوليتها وبلّغت من يفترض بها تبليغهم بالأمر؟ من المسؤول عن أمن اللبنانيين في هذه الحالة؟ 

ثّم إذا كانت كلّ هذه الأجهزة الأمنية والإدارية في المرفأ عالمة بحقيقة عنبر الموت، لكنّ أمر الحلّ والعقد في المرفأ ليس في يدها، فهذه الطامة الكبرى والجريمة الكبرى؟ ويصبح السؤال: من المسؤول الفعلي في المرفأ؟ يد من مطلوقة فيه؟

لذلك كلّه، فإنّ المطالبة بلجنة تحقيق دولية، قد بادر إليها أولّا “لقاء سيدة الجبل” و”حركة المبادرة الوطنية” ظهر الأربعاء الذي شارك فيه للمرة الأولى النائب نهاد المشنوق، ثمّ تلاهما لقاء رؤساء الحكومات السابقين (طالبوا بلجنة تحقيق دولية أو عربية) مساء اليوم نفسه، بعدما طالبت كتلة المستقبل النيابية برئاسة الرئيس سعد الحريري الاستعانة بخبراء دوليين، وبعدهم رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط ظهراً، ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ظهر اليوم التالي، وتوجّها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بتبنّيه هذه المطالبات وإعلانه أن إجراء تحقيق دولي بانفجار بيروت أمر ضروري. وهذه المطالبات السياسية فضلاً عن المطالبة الشعبية بتشكيل لجنة تحقيق دولية لتبيان الحقائف في انفجار هي مطالبات مشروعة وضرورية لثلاثة أسباب:

الأوّل لأنّ الحقّ الأساسي للضحايا في أرواحهم وأجسادهم وممتلكاتهم كما للبنانيين جميعاً هو معرفة حقيقة ما جرى من جهة دولية محايدة في ذلك الليل المشؤوم.

هل يستطيع القضاء اللبناني (بعد فراغ لجنة التحقيق من مهمّتها!) أن يفكّك هذه الشبكة بكلّ تداخلاتها، خصوصاً أنّه روجع في القضية ولم يتحرّك بما تستوجبه؟

والثاني لأنّ شبكة المسؤولية عنكبوتية تبدأ من وزارة الأشغال الوصية على إدارة مرفأ بيروت ووزارة المال الوصية على الجمارك وتصل إلى وزارة الدفاع الوصية على قيادة الجيش التي هي مسؤولة عن مخابرات الجيش. وفي تأمل لهذه الشبكة تصل إلى تساؤل واحد: من يحقق مع كل هؤلاء ومن يحاسب المقصر بينهم.

والثالث لأنّ ضياع أو محاولة تضييع المسؤوليات في هذه القضية، كما محاولة كلّ جهة رمي المسؤولية عنها على سواها، على ما ظهر من التصريحات ومن التسريبات الإعلامية، تعزّز الشكوك بوجود شبكة عنكبوتية تجمع بين الفساد والإفساد والإخلال بسيادة الدولة وأمن المواطنين. وهي مسؤولة عن جريمة المرفأ أيّاً تكن الأسباب الفعلية لوقوع الانفجار. فهل تحقّق هذه الشبكة مع نفسها؟ وهل يستطيع القضاء اللبناني (بعد فراغ لجنة التحقيق من مهمّتها!) أن يفكّك هذه الشبكة بكلّ تداخلاتها، خصوصاً أنّه روجع في القضية ولم يتحرّك بما تستوجبه؟ ثمّ ماذا عن التأخير في بتّ التشكيلات القضائية وما يتركه من شكوك محلية وخارجية في رغبة السلطة السياسية بضمان استقلاليته؟

إنّها أسئلة معلقّة، فهل تجيب عليها تحقيقات “الأيام الخمسة”، ومن يضمن عدم العبث بمسرح الجريمة، من قبل “جهات مخربة”؟!! بعد أن بقي المسرح مفتوحاً لساعات طويلة قبل تطويقه عسكرياً.

وفي الإنتظار فإنه يتوقّع أنّ تبادر القوى السياسية المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق في جريمة المرفأ إلى صوغ طلب تشكيلها قبل مطلع الإثنين، ورفعه إلى ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان وإلى سفير جامعة الدول العربية لدى لبنان.  

مواضيع ذات صلة

ماذا أرادَ نتنياهو من عمليّة “البيجر”؟

دخلَت المواجهة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منعطفاً هو الأخطر في تاريخ المواجهات بين الجانبَيْن بعد ما عُرِفَ بـ”مجزرة البيجر”. فقد جاءَت العمليّة الأمنيّة التي تخطّى…

ما بعد 17 أيلول: المدنيّون في مرمى الحزب؟

دقائق قليلة من التفجيرات المتزامنة في مناطق الضاحية والجنوب والبقاع على مدى يومين شكّلت منعطفاً أساسياً ليس فقط في مسار حرب إسناد غزة بل في تاريخ الصراع…

ألغام تُزَنّر الحكومة: التّمديد في المجلس أم السراي؟

ثلاثة ألغام تُزنّر الحكومة و”تدفشها” أكثر باتّجاه فتح جبهات مع الناقمين على أدائها وسط ورشتها المفتوحة لإقرار الموازنة: 1- ملفّ تعليم السوريين المقيمين بشكل غير…

الكويت والعراق.. “طاح الحطب” شعبيّاً

ليل السبت 7 أيلول الحالي، عبَرَت سيارة عراقية الحدود مع الكويت آتية عبر البصرة في جنوب بلاد الرافدين، لتطوي 34 سنة من المنع منذ قام…