سلّة الغذاء المدعومة: التجّار يتلاعبون.. والتهريب سيزداد

مدة القراءة 6 د


دخلت آليّة دعم السلّة الغذائيّة حيّز التنفيذ، تلك التي نصّت على توفير الدولار بسعر مدعوم قيمته 3900 ليرة للدولار الواحد، لنحو 300 سلعة غذائيّة. مع العلم أنّ هذه الآليّة أعدّتها وزارة الاقتصاد بالتعاون مع مصرف لبنان، ويفترض أن يتمّ توفير هذه الدولارات من خلال المصارف. وهي دولارات الاحتياط “الوطني”، أي دولارات المودعين، بشكل أو بآخر.

لكن لا يوجد داعٍ للتفاؤل بحصول انخفاض قريب في أسعار المواد الغذائيّة. فنقيب مستوردي المواد الغذائيّة هاني بحصلي أكّد أنّ الأسعار لن تنخفض قريباً، بذريعة انتظار التجّار أن يتخلّصوا من المخزون (الستوك) الذي اشتروه بسعر صرف مرتفع.

إقرأ أيضاً: سقط “رفع الدعم”.. ووقف التهريب قرار سياسي مفقود

مع العلم أنّ التجّار عمدوا في السابق إلى رفع أسعار المخزون المعروض من بضاعتهم، فور ارتفاع سعر الصرف، ودون انتظار بيع المخزون الموجود أساساً الذي اشتروه وفق سعر صرف منخفض. في ذلك الوقت، تحجّج التجّار بأنّ الدولار هو العملة الأساسيّة التي تحدّد كلفة بضاعتهم. ولذلك، فهم يحتاجون إلى إعادة تحديد سعر البضاعة الموجودة أساساً في المخازن لديهم وفقاً لتقلّب سعر صرف الدولار، حتّى لو كانت هذه البضاعة مستوردة قبل ارتفاع سعر الصرف.

لكن مع انقلاب الآية وتوفّر الدولار المدعوم بالسعر المنخفض، تغيّرت المعادلة، وبات التجار يرفضون تعديل الأسعار بالتوازي مع توفّر الدولار المدعوم وانخفاض سعر الصرف المعتمد للاستيراد، بانتظار نفاد المخزون السابق. باختصار، ما يعنيه تصريح النقيب هو التالي: ترتفع الأسعار البضاعة المعروضة فوراً مع ارتفاع سعر الصرف، لكنّها لن تنخفض بالتوازي مع انخفاضه وفق سعر مدعوم، إلا بعد نفاد المعروض واستيراد بضاعة جديدة.

التجّار عمدوا في السابق إلى رفع أسعار المخزون المعروض من بضاعتهم، فور ارتفاع سعر الصرف

ازدواجيّة التجّار في التعامل مع مسألة تقلّب سعر الصرف، تترافق مع مسألة أخطر. فإذا كان انخفاض الأسعار سيجري بالتوازي مع انتهاء المخزون الحالي، الذي اشتروه وفقاً لسعر الصرف السابق المرتفع، فمن هي الجهة القادرة على مراقبة هذه العمليّة وتحديد البضاعة التي اشتُريت وفقاً لسعر الصرف السابق، وتلك التي اشتُريت وفقاً لسعر الصرف الجديد المدعوم؟ وهل تملك وزارة الإقتصاد مثلاً القدرة على مراقبة مخزون آلاف المؤسسات التي تستفيد من السلّة الغذائيّة لاستيراد السلع المدعومة؟

باختصار مجدّداً: ما صرّح به نقيب مستوردي المواد الغذائيّة يفتح الباب هنا على ما لا يُحصى من أساليب التلاعب لتسعير المواد المستوردة حديثاً وفقاً للأسعار المرتفعة السابقة، بحجّة عدم نفاد المخزون السابق.

بمجرّد وجود سلع مدعومة وفقاً لسعر صرف يقلّ كثيراً عن سعر الصرف الفعلي في السوق، فإنّ أبواب التهريب ستكون مشرّعة

بمعزل عن كل هذه المحاذير، من اللافت أنّ آليّة الدعم الجديدة حوّلت عمليّة تزويد المستوردين بالدولارات المدعومة من شركات الصيرفة إلى المصارف. ومن المؤكّد أنّ هذه الخطوة جاءت بعدما تبيّن للجميع عدم واقعيّة فكرة “ضخّ الدولار” من خلال شركات الصيرفة، كما كانت تقضي الخطّة التي ألحّت عليها الحكومة ورئيسها في السابق. فشركات الصيرفة لا تملك الوسائل التقنيّة الكفيلة بمراقبة وجهة استعمال الدولارات، بينما تملك المصارف هذه القدرة من خلال إجراء التحويلات للخارج فوراً بعد شراء الدولارات، ووفق مستندات تمّ شراء الدولارات على أساسها. كما تملك المصارف الخبرة التقنيّة اللازمة لمراقبة بوالص الشحن لاحقاً، بحكم عملها في مجال تمويل الاستيراد، ومطابقة المعلومات الواردة فيها مع المعلومات الواردة في الفواتير التي قدّمها المستورد عند طلب شراء الدولارات والتحويل.

لكن على الرغم من قدرة المصارف على التحقّق من استيراد المواد المدعومة إلى لبنان، ثمّة محاذير تتعلّق بعدم القدرة على ضبط وجهة هذه السلع. فعمليّاً، وبمجرّد وجود سلع مدعومة وفقاً لسعر صرف يقلّ كثيراً عن سعر الصرف الفعلي في السوق، فإنّ أبواب التهريب ستكون مشرّعة لإساءة استعمال هذا الدعم. ببساطة، سيكون بإمكان المهرّبين استيراد سلع السلّة الغذائيّة المدعومة وفقاً لسعر الصرف المدعوم والمحدّد عند مستوى الـ 3900 ليرة للدولار، قبل بيعها في السوق السوريّة بالدولار النقدي، الذي يمكن بيعه لاحقاً في السوق السوداء بسعر صرف يتراوح عند معدّلات تتجاوز 8500 ليرة للدولار في أغلب الأوقات. وبذلك، سيتكرّر أمام اللبنانيين سيناريو تهريب المازوت والأدوية والطحين، وهي السلع التي يدعمها مصرف لبنان بسعر 1500 ليرة للدولار، لكن هذه المرّة سيطال التهريب سلّة كبيرة من أكثر من 300 سلعة مدعومة.

هناك خطر توسّع عمليّات التهريب، وهناك هاجس عدم كفاية الدولارات. وإذا جمعنا العاملين معاً، فستكون النتيجة شحّ المواد المدعومة في الأسواق

في كلّ الحالات، ثمّة عراقيل أخرى ستواجهها هذه الآليّة خلال المرحلة القادمة. فمن المعروف أنّ الدولارات التي سيقوم المصرف المركزي بضخّها لتمويل دعم السلّة الغذائية ليست سوى الدولار التي يحصل عليها من الحوالات الواردة إلى شركات تحويل الأموال، في مقابل سداد قيمة هذه الحوالات بالليرة اللبنانيّة إلى مستحقّيها. وخلال المرحلة الماضية، وعندما نفّذ المصرف المركزي خطّة ضخّ الأموال من خلال شركات الصيرفة لفترة معيّنة، واجه المصرف مشكلة عدم كفاية هذه الدولارات لتمويل أغلب حاجات مستوردي المواد الغذائيّة. ومن المتوقّع أن يزيد هذا العجز مع تطبيق الآليّة الجديدة التي وضعتها وزارة الإقتصاد، خصوصاً أنّ الآليّة تضع 300 سلعة غذائيّة ضمن قائمة السلع التي يحق لها الاستفادة من هذه الدولارات المدعومة، وهو ما سيزيد من ضغط الطلب على هذه الدولارات.

إذاً، هناك خطر توسّع عمليّات التهريب، وهناك هاجس عدم كفاية الدولارات. وإذا جمعنا العاملين معاً، فستكون النتيجة شحّ المواد المدعومة في الأسواق، على النحو الذي تشحّ فيه الأدوية والمازوت حاليّاً. وبذلك، قد تشهد المتاجر اللبنانيّة توسّع ظاهرة الرفوف الفارغة وتزايد السلع المفقودة في المتاجر. وهي مشاهد بدأنا نراها في معظم المناطق نتيجة شحّ الدولار وارتفاع سعر صرفه. وعمليّاً، ستكون الأيام المقبلة كفيلة بتبيان مدى قدرة الآليّة الجديدة على النجاح، مع العلم أنّ أيّ فشل محتمل لهذه الآليّة، ستكون كلفته المزيد من الضغوط المعيشيّة القاسية، خصوصاً انّ هذه الآليّة تُعنى بتوفير سلع ذات طابع غذائي حيوي لا يمكن الاستغناء عنها.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…