أوقع العهد نفسه في ورطة. أراد استدعاء القوى السياسية لمناقشة الوضع الأمني، والالتفاف على الأزمة الحقيقية بانعكاساتها المالية والاقتصادية، فانقلبت الأمور عليه.
في النقاش الأمني يكون العهد وحلفاؤه في موقع الضعف، فهم الذين يرتكزون على السلاح ومعادلاته. وهم الذين شاركوا في حوارات ونقضوها حالما تعارضت مع مصالحهم. وهم الذين تبنّوا “إعلان بعبدا” ثم نفضوا أيديهم منه سريعاً، وصولاً إلى إزالته من بهو القصر الجمهوري بسبب “اندلاع حريق”. بتركيزهم على الحوار يناقضون أنفسهم وتوجّهاتهم، وهم الذين ما تركوا الشارع عند الحاجة، وما خسروا استثماراً ابتزازياً فيه عند الحرج.
إقرأ أيضاً: دياب في الحوار: تمثال تمر.. سيأكله جائعو السياسة
أصبحت سياسة العهد معروفة. بعد المأزق يستدعي خصوماً أمعن فيهم تنكيلاً واتهاماتٍ، يدعوهم ليشاركوه في تحمّل مسؤولية الانهيارات التي تسبّبت بها قراراته. منطق عمله مفضوح. كلّ ما يحذّر منه أو يبدي تخوّفاً من حصوله، يعني أنّه يقودنا إليه، كحاله عندما يتحدّث عن نبذ الفتنة وهو من يؤسّس لها سياسة وممارسة. كلّ التحذير من الانهيار يبدو أنّه غطاء لمشروع أصبح مدروساً وممنهجاً، سواء وفق سياسة المستشارين، التي يختصرها جبران باسيل في مواقفه، أو في مواجهة قانون قيصر، أو في الحديث عن الأموال المنهوبة والموهوبة. تلك التي تغلّف مواقف أخرى سيكون لها علاقة بإفلاس متعمّد للمصارف، أو بالحديث عن الاستثمار بأصول الدولة في صناديق سيادية. وكلّها إعلانات ترويجية لتكريس الانهيار الاقتصادي الكبير، الذي سيترافق مع انهيار سياسي يطمح البعض في التأسيس عليه لبناء طموحات واهية.
لم يعد من مجال لنظرة مواربة: حزب الله هو السلطة، تنفجر بوجهه كلّ الأزمات، حكومته عاجزة عن القيام بأيّ خطوة
جزء من هذه الطموحات أصبح معلوماً على الرغم من تجهيل الفاعل، وقد تحدّث عنه الرئيس نبيه بري علانية عندما قال: “لقد بُحّ صوتنا. ونجدّد اليوم الدعوة وقبل فوات الأوان إلى الإسراع في المعالجة الفورية لقطاع الكهرباء، ووقف النزيف القاتل الذي يسبّبه في المالية العامة، والإسراع في إقرار قانون استقلالية القضاء، وإجراء المناقصات العمومية بطريقة شفافة وذات مصداقية، فالقوانين وُجدت لتطبّق”. وحذر برّي من أنّ لبنان “الذي يقع على قوس جغرافي مشتعل على طول الشاطئ الشرقي لحوض المتوسط، بدءاً من طرابلس الغرب في ليبيا مروراً في الساحل السوري وطرابلس في شمال لبنان، وليس انتهاء بغزّة، تتصارع فيه أجندات ومحاور إقليمية ودولية. لبنان واحد من ميادين هذا القوس. الهدف هو السيطرة على الثروات الهائلة والكامنة في أعماق مياه هذه المنطقة، نفطاً وغازاً، فضلاً عن تأمين ممرات مائية نحو أوروبا، ناهيك عن بيت القصيد، وهو تمرير صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية، وتحويل المنطقة إلى إسرائيليات وكيانات عنصرية متناحرة”. كلام بري قابلته ورقة “الحزب التقدمي الاشتراكي” في “لقاء بعبدا”، التي أشارت إلى الخطر المحدق بوحدة لبنان وسط مساعٍ داخلية وخارجية لتقسيمه.
لم يعد من مجال لنظرة مواربة: حزب الله هو السلطة، تنفجر بوجهه كلّ الأزمات، حكومته عاجزة عن القيام بأيّ خطوة، وهي تحتاج إلى الدخول في مسار طويل معقّد مليء بالمصاعب ليس سهلاً، ولن تفلح.
تتوالى الأزمات، من البنزين والمازوت وصولاً إلى الطحين، ولقمة العيش، كلّها، ستكون في مواجهة مع حزب الله. وهذا نوع من المواجهات الذي يستعصي على القتل والابتزاز ويستعصي على مواجهته بالقوّة.
الخيار الأميركي واضح: إما حكومة مستقلين أو استمرار الضغط والأزمة والجوع. باسيل يحاول التنصّل من الحكومة، حزب الله يتمسّك بها، لكن حسان دياب يبدو خائفاً وقلقاً. خائفاً على نفسه ويريد البقاء رئيساً للحكومة، يرتجف كلما سمع عن لقاء أو تواصل بين أيّ طرف سياسي وبين سعد الحريري. ويسارع إلى السؤال إذا ما كان يُراد إقالته واستبداله بالحريري. وخائف من الاستمرار وتوالي الانفجارات بوجهه، التي ستحيله إلى تصريف الأعمال بانتظار توافر ظروف لتشكيل حكومة جديدة.
لم يعد أمام حزب الله سوى خيار من اثنين: الاستعداد لموجات من التحرّك الشعبي الكبرى واتخاذ كلّ الإجراءات لاستباقها كي لا ينفلت الشارع من يده، فيكون أوّل المبادرين للنزول إليه والسيطرة عليه. وهذه ستستدعي ازدواجية لدى الحزب في المواءمة بين الحركة الشعبية وبين الحفاظ على الحكومة. وهو حراك ظنّ حسّان دياب قبل أسبوعين أنّه محاولة انقلاب عليه، ما استدعى رداً توضيحياً مباشراً من نصر الله بأن لا أحد يسقط حكومته. والخيار الثاني هو الذهاب إلى عمل عسكري داخلياً أو خارجياً، يدفع إلى استدراج عقود التفاوض بحثاً عن مخرج. وفي كلا الحالتين، سيكون العهد في موت سريري، والحكومة بحكم المنتهية. ولا قيمة لمثل حوار بعبدا، إلا بعد استحقاق كبير يشارك فيه الجميع، ويخرج بمندرجات سياسية جديدة.