من مفارقات التاريخ أنّ الكنيسة المارونية التي كانت في العام 1920 في دائرة الضوء بالنظر إلى فاعليتها وقدرتها على التأثير في مجريات الأحداث وقتذاك، تعود بعد مئة عام بالتمام إلى دائرة الضوء من جديد، لكن من دائرة العتمة. فهي باتت مأزومة وتبحث عن خشبة خلاص لمؤسّساتها التربوية التي كانت طيلة العقود الماضية أداتها التنفيذية في نشر أفكارها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على كامل التراب اللبناني.
تعاني نحو 245 مدرسة كاثوليكية من أصل 313، من ضائقة مادية كبيرة يرجّح أن تدفع بها إلى الإقفال القسري في العام الدراسي المقبل
لقد أعادت الأزمة الاقتصادية والمالية تأكيد الرابط “الجوهري” بين لبنان وبين الكنيسة المارونية، لكن هذه المرة على نحوٍ تراجيدي. فبعد أن أمّن “لبنان الكبير” نجاحاً معنوياً وسياسياً واقتصادياً للكنيسة، يهدّد الفالج المالي الذي يصيب هذا اللبنان اليوم بضرب مصالح الكنيسة في الصميم، ويهدّد تالياً نفوذها السياسي والاقتصادي الاجتماعي، باعتبار أنّ المدارس الكاثوليكية التي تشكّل الكنيسة المارونية مرجعيّتها السياسيّة والمعنوية، واقعة في مأزق حقيقي لن تستطيع، بحسب المعطيات الحالية، الخروج منه بـ “علاجات موضعية”.
إقرأ أيضاً: الانهيار التعليمي للسنة الجديدة: 75 ألف طالب من دون مقعد دراسي
تعاني نحو 245 مدرسة كاثوليكية من أصل 313، من ضائقة مادية كبيرة يرجّح أن تدفع بها إلى الإقفال القسري في العام الدراسي المقبل، إذا لم يتمّ التوصّل إلى حلول لهذه الأزمة. هذه المدارس الـ245، يضمّ 176 منها أقلّ من 400 تلميذ، بينما تضمّ الـ69 الباقية بين 400 و800 تلميذ. وفي مقاربة أخرى، فإنّ 231 مدرسة كاثوليكية لا يتجاوز عدد تلامذة أيٍّ منها الـ 750 تلميذاً، مهدّدة بالإقفال، علماً أنّ 147 منها غير مجانية.
وكانت الرئيسات العامات والرؤساء العامّون للرهبانيات في لبنان، قد وجّهوا كتاباً مفتوحاً إلى رئيس الجمهورية ميشال عون في 19 أيار الماضي يبلغونه فيه أنّ ما لا يقلّ عن 80 في المئة من مدارس هذه الرهبانيات لن تفتح أبوابها في العام الدراسي 2020- 2021.
هذا الواقع الصعب تؤكدّه أرقام دراسة أجرتها “الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية” بالتعاون مع جامعة “القديس يوسف” في بيروت. ومن هذه الأرقام أنّ نسبة تحصيل الأقساط المدرسية في الفصل الثاني لم تتعدَّ في معدّلها العام بين المناطق، الـ 18,04 في المئة، بينما بلغت في الفصل الأول 39,60 في المئة. كذلك فإنّ نسبة تسديد الرواتب والأجور في هذه المدارس تدنّت إلى 55,68 في المئة في شهر آذار الماضي، بينما بلغت في شهر شباط الماضي 80,51 في المئة، أي أنّها تدنّت في شهر واحد بنسبة 25 في المئة تقريباً. وكان اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة في لبنان قد ذكر في كتاب وجّهه إلى الرئيس نبيه بري في 20 نيسان الماضي أنّ “كلّ مدارسنا عاجزة عن تسديد الرواتب والأجور لشهر نيسان الحالي، وللأشهر التي ستليه”، علماً أنّ عديد الهيئة التعليمية في المدارس الكاثوليكية يبلغ 16500 معلّمة وأستاذ، بينما يبلغ عديد هيئاتها الإدارية نحو 4500 موظف، هذا ناهيك عمّا يعادلهم من عمّال ومقدّمي خدمات تتعامل معهم هذه المدارس لتسيير أعمالها.
أكثرية المدارس الكاثوليكية المهدّدة بالإقفال تقع في المناطق الريفية قليلة عدد السكّان، وهو ما يفسّر قلّة عدد تلامذتها
أمّا اجمالي عدد المتعلّمين في هذه المدارس الكاثوليكية، فيبلغ 184 ألفاً وعشرة تلاميذ، 28.830 منهم في مدارس مجانية بينما الباقون أي 155.180 تلميذاً، موزّعون على المدارس غير المجانية. في وقت يبلغ عدد المتعلّمين في المدارس الخاصة ككلّ أكثر من 700 ألف تلميذة وتلميذ، يدرّسهم نحو 59.080 معلمة وأستاذاً.
كذلك، فإنّ أرقام الدراسة المذكورة تشير إلى أنّه من أصل 184.010، العدد الإجمالي في المدارس الكاثوليكية، فإنّ 49.310 منهم هم “غير مسيحيين”. مع العلم أنّه من أصل 28.830 تلميذة وتلميذاً في المدارس الكاثوليكية المجانية، فإنّ 13.317 منهم هم من “غير المسيحيين”، بينما 2724 تلميذاً منهم هم مسيحيون غير كاثوليك.
والجدير ذكره أنّ أكثرية المدارس الكاثوليكية المهدّدة بالإقفال تقع في المناطق الريفية قليلة عدد السكّان، وهو ما يفسّر قلّة عدد تلامذتها. لكن في المقابل، فإنّ وجود هذه المدارس في هذه المناطق يكتسب أهمية اجتماعية وسياسية واقتصادية قصوى. فوجودها هناك محفّز رئيسي للأهالي سكّان القرى على البقاء في قراهم ما دامت هذه المدارس تؤمن التعليم لأولادهم. كما أنّ وجودها في مناطق مختلطة طائفياً يحافظ على وظيفتها “الاستقطابية” لأبناء وبنات الطوائف الأخرى. وهذه إحدى وظائفها التاريخية المهدّدة اليوم بالزوال بعدما كانت قد تراجعت تدريجاً في السنوات الماضية.
إذّاك تلقي الأوضاع الصعبة للمدارس الكاثوليكية بثقلها على الكنائس الكاثوليكية في لبنان ولا سيمّا على البطريركية المارونية والرهبانيات المارونية التي ترعى وتدير العدد الأكبر من هذه المدارس على كامل الخريطة اللبنانية. وكان الاجتماع التربوي الموسّع الذي انعقد في بكركي في 10 حزيران الجاري، والذي ضمّ إلى الهيئات التربوية الكاثوليكية ممثّلين عن اتحاد المؤسّسات التربوية الخاصة ونقابة المعلمين في ظلّ غياب ممثلي لجان الأهل، قد أنذر بـ”انهيار المنظومة التربوية ما لم تتدخل الدولة خلال شهر واحد لإيجاد الحلول العادلة”، ومنها “إعطاء مساهمة مالية عن كلّ متعلّم في المدارس الخاصة غير المجانية خلال هذه السنة أسوة بما حدث عام 1987”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل يمكن للدولة، في ظلّ العجز المالي غير المسبوق في موازنتها العامة، أن تجد حلولاً للنكبة التربوية؟ وإذا افترضنا أنّ الدولة مستعدة للمساهمة في الحلّ، فما هي حدود مساهمتها تلك في ظلّ الأوضاع الراهنة؟ وهل مساهمتها، في حال حصلت وفي حدود مقبولة، قادرة على التأسيس لمسار تعافٍ من هذه الأزمة، أو أنها ستكون بمثابة “مسكّنات” لن تبلغ عتبة المعالجات طويلة الأمد لها؟
وما يفاقم هذه النكبة أنّ أيّاً من المرجعيات الروحية أو السياسية المسيحية لم يرعَ عملية تفاوض بين أطرافها، سواء إدارات المدارس، أو المعلّمين أو الأهالي. فمن ناحية، هناك التجاذب المستمر بين الإدارات المدرسية والمعلّمين منذ إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017. ومن ناحية أخرى، هناك التجاذب بين هذه الإدارات والأهالي بالنسبة إلى مهل دفع الأقساط، وهو ما يخلق تجاذبا جانبياً بين الأهالي والمعلّمين أيضاً.
تبعات أزمة المدارس الكاثوليكية لن تقتصر عليها وحسب، بل ستشمل واقع المسيحيين السياسي والاقتصادي الاجتماعي في لبنان
وكان البابا فرنسيس، وفي دخول مباشر للكرسي الرسولي على خطّ هذه الأزمة، قد أرسل 200 ألف دولار إلى لبنان للمساعدة في توفير 400 منحة دراسية للطلاب. وهذه خطوة تعكس، بحسب أوساط متابعة، أمرين: أولّهما اهتمام الفاتيكان بالقطاع التربوي الكاثوليكي في لبنان والذي تمّ بناؤه بجهد غربي ومحلّي على مدى نحو قرنين من الزمن، وثانيهما حثّ الكنيسة المحلّية على التحرّك لإيجاد حلول للأزمة التربوية تمنع تفاقمها إلى حدود تهدّد التنظيم الاجتماعي/السياسي للمسيحيين مع ما يعنيه ذلك من نزوع إضافي لديهم للهجرة. هذا مع العلم أنّ أوساطاً كنسيّة غربية رفيعة تحمّل المدارس الكاثوليكية مسؤولية رئيسية في أزمتها، إذ وبالرغم من تلمّسها مؤشرات الأزمة المقبلة، فهي استمرت في توسعة أعمالها الإنشائية على حساب تأمين متطلّبات استمراريتها. وتشير معلومات إلى أنّ سفيراً غربياً كان قد أثار الأزمة التربوية مع الرئيس ميشال عون، الذي أجابه بأنّ “الأمر قيد المعالجة”، دون الدخول في التفاصيل.
في المحصلة، فإنّ تبعات أزمة المدارس الكاثوليكية لن تقتصر عليها وحسب، بل ستشمل واقع المسيحيين السياسي والاقتصادي الاجتماعي في لبنان. ولذلك، فإنّ الكنيسة والرهبانيات لاسيما المارونية منها، مضطرّة، بطبيعة الحال، إلى إيلاء هذه الأزمة أهمية قصوى، والبحث عن حلول طويلة الأمد لها، لن تؤمنها مساعدات الدولة المأزومة مالياً. فهل تبحث الكنيسة والرهبانيات عن “أسواق” جديدة وعن شراكات تربوية عربية وأجنبية؟ وإذا كان هذا سعيها، فلا بدّ أن يترافق مع سردّية سياسية وفكرية من جانبها تتماشى مع توجّهها لاستنباط دور جديد لمدارسها، لاسيّما في المجال العربي، باعتباره الأكثر قابلية بحكم الجغرافيا واللغة المشتركة للتفاعل معها. فهل هي في هذا الصدد حقاً؟