من يهن مرّة يهن هوانه كلّ مرّة. بيروت، حكاية أغنية جديدة ومتجدّدة. والأغنية اللمّاعة بأشجانها تجد من يضربها بالنشاز. كانت أولاً بيروت، عاصمة للفقراء، عاصمة للأثرياء، وخليطاً من نسائج متنوّعة. هذه البيروت التي لا يريدها النشّازون، ولا الشاذون عن كلّ ما يمتّ بصلة إلى الوحدة الوطنية، وإلى أحلام الحالمين بما هو أرقى وأفضل. من أعاق مشروع “أليسار” يؤرّقه مشروع “سوليدير”، والمجال ليس للنقاش في الفكرة وما حولها من خلاف وإشكال.
يجتمع على بيروت اليوم من أراد تقسيمها في الانتخابات، ومن أراد إنشاء مجلسين بلديين لها بدلاً من مجلس واحد، جامعاً شرقها بغربها. وهناك من يريد فصل شمالها عن جنوبها. لكنّ بيروت لأهلها منشأً ومسكناً. كُتب لها أن تواجه الحقد والحاقدين، بيروت لكلّ أبنائها، وليس لها أن يأتي جزء من أبنائها ليحرقها.
إقرأ أيضاً: دولار الفيسبوك يُنزل جميع اللبنانيين إلى الشارع: 60% منهم تحت خط الفقر
هانت بيروت في 7 أيار 2008، تألّمت وصبرت، وعادت لاحتضان الجميع. وهانت مجدّداً ليلة نتائج الانتخابات النيابية في العام 2018 عندما اجتاحتها جحافل الدراجات النارية احتفاء باختراقها انتخابياً. وفي المرة الثالثة هانت السبت الأسود في 6/6. ثم هانت مساء الخميس الفائت، تحت أحقاد تخريب وإحراق وتدمير. وهي التي لم تعتَد الهوان يوماً. في المرّة الثالثة أراد مهاجموها سرقة أحلام مخنوقة، خنقت ذات شباط بقتل حلم الحرية في عيد عشاقها.
بيروت لم تَهُن، بل أُهينت، وآن لها تنفض عنها غبار الأسى والخمول. أهلها تجار ورجال أعمال، لكن بينهم الأشدّاء الأشدّاء، ليس بيدهم ترف البقاء على شبابيك “الفرجة”.
لبيروت ربٌّ يحميها وأهلٌ يدافعون عنها. ولها في ذاكرتهم تاريخ مجيد، بأصوات استغاثة الجنود الصهاينة وهم يصرخون “يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا فنحن منسحبون”. والعبرة لمن يعتبر. بيروت أيضاً المفتي حسن خالد، صاحب الصوت العالي، الذي لم تستطِع إسكاته إلا المتفجّرات الحارقة. وبيروت رفيق الحريري، رفيقة الحلم والإعمار، ورفيقة بندقية أبي عمار. بيروت البندقية وغصن الزيتون معاً.
تدخل بيروت في بوابة النار الوحيدة. بيروت من تعبٍ ومن ذهبٍ، وأندلسٍ وشام. جانب من الحقد عليها، وتصفية الحساب معها، أنّ أوان الياسمين يفوح في الشام. من يخسر الشام يريد السيطرة على بيروت، وتطويعها، وهي التي أخرجت محتلاً ولأمت جرحاً وظهرت عنقاء من الدمار.
المشكلة ليست في حزب الله، ولا بقوّة يلوّح بها ويستخدمها، المشكلة بخوف من لا يواجهه، وبيروت ما اعتادت الخوف
سابقاً رسم هنري كيسنجر استراتيجية “خطوة خطوة”، لتحقيق ما يريد. اليوم يرسم حزب الله استراتيجية “ضربة ضربة” لتحقيق سيطرته الكاملة على العاصمة وعلى البلاد، أمناً وقضاءً وإدارةً ومصرفاً مركزياً ومصارفَ. وتتوالى الضربات، من مساء السبت 6 حزيران 2020، بإثارة الاشتباك المذهبي، إلى مساء الخميس 11 حزيران 2020، بمحاولة لمحو آثار السبت والسيطرة على وجهة التظاهرات. وبعد تحقيق ما أراد مالياً من خلال الضغط على حاكم مصرف لبنان وإجباره على “ضخّ الدولارات” لتذهب إلى سوريا، لجأ ليلة الجمعة إلى استكمال مشروعه الأوّل بضرب بيروت، والسيطرة على وسطها، ليقول إنّه أحكم السيطرة على الحكومة والمعارضة معاً.
مشاهد التخريب في بيروت، كانت مؤشراً لمرحلة محفوفة بصعاب ومخاطر. فتح حزب الله المواجهة استباقياً، ووجّه ضرباته. حزب الله في وضع لا يُحسد عليه. لا يعرف عمن يدافع وفي وجه من يقف. هذا الارتباك يدفعه إلى استخدام القوة، التخريب، لإثارة المعمعة والتعمية على حقيقة الأزمة التي يعانيها. مشكلته الأساسية أنّه يمسك بالسلطة ويريد الإمساك بالمعارضة معاً. بكلتا الحالتين سيكون معرّضاً للإصابة، ومن يحسن الإدارة قادر على إصابته في أكثر من مقتل. لذا ينقضّ على بيروت، بما تمثله وما ترمز إليه. يخرّب الحياة التي بدأت تتلمّسها بثورة أبنائها وأبناء المناطق كلّها. يسعى لتخريب ثورة كانت تحبو لاستعادة براعم الربيع.
المشكلة ليست في حزب الله، ولا بقوّة يلوّح بها ويستخدمها، المشكلة بخوف من لا يواجهه، وبيروت ما اعتادت الخوف، إن ركنت لهدنة واحتضنت كل شاكٍ أو باكٍ أو متألمٍ. فبيروت بوابة النار الوحيدة. بيروت بواريد وأطفال وخنادق، و”حرية سهرانة ع حيطان البيوت”.
قومي يا بيروت.