على وقع الأزمة النقدية والاقتصادية زاد مصرف لبنان من طبع العملة الوطنية لتأمين حاجات الدولة التي لامست 8 مليارات دولار، وأيضاً للتخفيف من مطلوبات المصارف عليه بالعملة الأجنبية، ولاستكمال مشهدية لبننة الودائع. هذه الصورة تعني أننا دخلنا في متاهة بكتلة نقدية متورّمة لامست الـ 23 ألف مليار ليرة، وتضخّم مفرط تخطّى الـ 500 في المئة.
إقرأ أيضاً: 5 شروط لصندوق النقد لمساعدة لبنان
خرج كبير الاقتصاديين في جامعة جونز “هوبكنز” ستيف هانكي ليقترح على اللبنانيين خطوات لوقف نزف العملة، منها توقّف مصرف لبنان عن ضخّ النقود لمدة 30 يوماً، ودعا إلى إنشاء مجلس نقد، ووقف القيود على عمليات التحويل والسحوبات المالية.
فما هو مجلس النقد أو ما يعرف بالـCurrency board؟
بحسب خبير التشريعات الاقتصادية عمر البيسار، يعتبر الـcurrency board واحداً من سياسات نقدية عدّة اعتمدتها دول كثيرة عبر التاريخ الحديث، تتراوح بين الـmonetary union (الاتحاد النقدي) وبين التعويم الكامل لسعر الصرف، وفق ما يشرح البيسار لـ”أساس”. وحين يتشكّل هذا “الاتحاد النقدي” يتوقف المصرف المركزي عن طبع الليرة، لمدّة 30 يوماً، بحسب هانكي، وبعدها، يطبع المصرف المركزي ليرات تساوي موجوداته من الدولار. فعلى سبيل المثال إذا كان لبنان يملك 20 مليار دولار، على سعر صرف 4 آلاف ليرة، يمكنه أن يطبع 80 ترليون (الترليون هو ألف مليار) ليرة لبنانية… وهكذا دواليك.
من غير العدل أن نحمّل نهج التثبيت أزمة فقدان الليرة قيمتها
الـcurrency board كسياسة نقدية تحتلّ مرتبة متقدّمة في مكافحة التضخم وتثبيت سعر الصرف. لكن في الوقت الراهن، من الصعوبة بمكان تطبيقه في لبنان. إذ إنه يتطلّب تغطية كميات الليرات الموجودة في حسابات المصارف اللبنانية، بالليرة وهي تقدّر بحوالي 222 ألف مليار ليرة، إلى جانب 17 ترليون ورقي في السوق. وبالتالي، سوف يحتاج لبنان إلى أكثر من 60 مليار دولار لتطبيق هذه السياسة. وحتّى لو طرحنا احتياطي الذهب، يبقى على لبنان أن يؤمن 45 مليار دولار نقداً لتغطية الليرة. وبالتالي إذا تأمّن هذا المبلغ، يصير ممكناً طباعة 222 ألف مليار ليرة لبنانية.
أضف إلى ذلك، أنّ التزامات لبنان الأخرى من سندات اليوروبوندز وديون خارجية ستشكّل ضغطاً على الخزينة العامة التي قد تضطر لاحقاً إلى طباعة العملة مجدّداً.
الدكتورة المتخصّصة في مجال علوم النقد والمال، ليال منصوري، تقول لـ”أساس” إنّ “سياسة تثبيت سعر صرف الليرة هي التي أدّت إلى الحفاظ على قيمتها، طيلة السنوات الـ23 الماضية. ومن غير العدل أن نحمّل نهج التثبيت أزمة فقدان الليرة قيمتها. فيما سبب ما وصلنا إليه اليوم، يعود بالدرجة الأولى، إلى سلسلة خطوات استنزاف احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية، بسبب نهج المحاصصة والفساد الذي ساد في البلاد، والذي ساهم فيه أهل السلطة والمصارف ومصرف لبنان”.
تعتبر منصوري أنّ اللجوء إلى انشاء مجلس النقد، هو من الخطوات الأساسية، التي يجب اتباعها لتثبيت سعر الصرف، من خلال تأمين غطاء احتياطي بالعملة الأجنبية أو العملة الصعبة، لمجمل الكتلة النقدية المتداولة، بالإضافة إلى سحب صلاحية المصرف المركزي لطبع الليرة اللبنانية، التي تعزّزت بشكل أساسي، إضافة إلى أسباب أخرى مذكورة، من تراجع من قيمة الليرة اللبنانية، إلى زيادة نسب التضخم.
الحلّ السحري مفقود. وذخيرة ميزان المدفوعات من العملة الخضراء نفدت حتى بلغ عجز هذا الميزان نحو 18 مليار دولار في السنوات الخمس الأخيرة
خطوة إنشاء مجلس النقد يمكن أن تعزّز موقع لبنان في مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، شرط عدم التنازل عن مبدأ تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية.
في الخلاصة، فإنّ الأزمات المثلّثة التي يعانيها لبنان اليوم، الاقتصادية والمالية والنقدية، وتداعياتها السلبية على الواقعين الاجتماعي والأمني، وحتّى النفسي على المواطن، عوّدتنا على مصطلحات وتعابير، لا تلبث أن تصبح حديثاً متداولاً، وطرحاً مقترحاً من طروحات الحلّ، في أقصر وقت وبأقلّ تكلفة.
ومع خسارة غير مسبوقة في قيمة اليرة، في ظاهرة لم يشهدها لبنان حتى في أحلك الظروف الأمنية، وخلال حربه الأهلية التي استمرّت قرابة الخمسة عشرة عاماً، فتح النقاش عن كيفية وقف النزف الحاصل للنقد الوطني. فالحلّ السحري مفقود. وذخيرة ميزان المدفوعات من العملة الخضراء نفدت حتى بلغ عجز هذا الميزان نحو 18 مليار دولار في السنوات الخمس الأخيرة. الدولار الأخضر الذي كان يضخّه مصرف لبنان لتمويل حاجة البلاد من الاستيراد بشكل تدريجي كي لا تتآكل الليرة أمام العملة الصعبة، بات شبه مستحيل. التدفّقات المالية من صندوق النقد الدولي أو من مؤتمر “سيدر” والاستثمارات الأجنبية لا سيما العربية منها، لن تعود إلى بلد محكوم بالمحاصصة والفساد، وبتلاشي رغبة الإصلاح.
ربما يكون الـCurrency board هو الحلّ. لما لا؟