تراجع جديد يسجّل لرئيس الجمهورية ميشال عون ولرئيس الحكومة حسّان دياب. السياسة الهجومية التي اتبعها الرجلان منذ نيل الحكومة الثقة، حوّلتهما إلى سبّاحين غارقين، تتلاطمهما أمواج سياسية عاتية. أصابتهما بالدوار، وأودت بهما إلى قاعات الغرق. صفعة تلو أخرى، أسهمت في إيقاظهما. فلم يعد عون يريد حروباً سياسية مغلّفة بالنكايات، وتغاضى دياب عن 30 سنة، مركّزاً على الحوار، ساعياً إلى بنائيته مقلعاً عن فتح الدفاتر القديمة. كانت محاربة طواحين الهواء من اختراع العهد والحكومة، لا أحد يقارع الهواء إلا ويُصرع.
الكلام لمن يعتبر. إذا ما كان من مكان للمعتبرين. لا يمثّل وليد جنبلاط في السياسة اللبنانية، ما يمثّله السنّة بزعاماتهم وشخصياتهم المتعدّدة. فرض جنبلاط بـ”أقلويته” ومحدودية دوره وتأثيره وحضور طائفته، ما يريده أكثر من مرّة من قبرشمون إلى لقاء بعبدا قبل أيام، يخرج وليد جنبلاط دوماً منتصراً لا منكسراً. ما يضع السنّة بين منزلتين، الحسد، والقهر. في الرئيس نبيه بري عبرة أيضاً. من كانوا يقارعونه أتوا إليه صاغرين، طالبين السماحة والسناحة، تعب المحاربون من معاركهم، فألقوا أوزار أوهامهم جانباً، وعادوا إلى الواقعية ولعبة الثوابت.
إقرأ أيضاً: دياب يرث الحريري في تنازلاته…
وحدهم السنّة يشعرون بالقهر. قهر داخلي وخارجي في غياب الرؤية والمشروع. في غياب الموقف الواضح الموحّد، الذي يعيدهم إلى رحاب معركتهم الوطنية وعنوانها الدولة بمؤسساتها، لا بمحاصصاتها وتقسيماتها وتنفيعاتها. مشكلة السنّة أنهم يستضعفون أنفسهم، ولا يحيطونها بالثقة والاعتداد بالذات. حتى غمرتهم ردميات الزمن وأخفاهم غبار مياعة المواقف. لم يخرج من بينهم أحد يصرخ بلاءاتها ولو حاول مراراً نهاد المشنوق . أغرقهم وهنهم، وأغدق عليهم المتصدّقون بما ليس لهم ولم يكونوا فيه على مرّ الزمن.
ذهب دياب وباسيل إلى برّي، مستسمحين معتذرين، ليقينهما أن لا حكومة تمشي، ولا بلد يسير طالما استمرت مناكفة رئيس المجلس. ذهب جنبلاط إلى بعبدا بعد مساعٍ كثيرة، أثبت فيها أنه عصيّ على القضم، لم ينجحوا بإقصائه في قبرشمون وبعدها، أربكهم في مواقفه الأخيرة سياسياً، طرح مادة سياسية أثارت المسيحيين قبل الدروز أو غيرهم، فكانت المبادرة من المسيحيين على طريق بعبدا المختارة.
يقف السنّة على حيرتهم، يسألون عن وجودهم وعن تأثيرهم. نثروا ما ظّنوه بين أيديهم، فظهر خواء. لم يعد في كفهم ما يُعيل أو يُعين. هم الذين صعب عليهم الهوان على مرّ التاريخ، لا يجدون فسحة يتسرّبون منها لفرض ما يريدون. صراعاتهم تمقتهم، كبرت عليهم مواقعهم، وضاقت سبلهم إليها، فصغرت في من استحلّها واستهلّ مسيرته فيها، لخدمة آخرين.
يجب أن يعلم الحريري أن ما نراه هو تظهير لانقلاب يقوده حزب الله يعاونه فيه رعونة وأحقاد باسيلية وعونية، وأن الدكتور حسّان دياب يعلم أنه سيكلّف برئاسة الحكومة قبل شهرين من استقالة الحريري
السنّة اليوم خارج المعادلة. لا تأثير لهم . فرق متشتّتة، على ركام يجرفه النهر. جماعات ضائعة، غاضبة، تصرخ في برية شاسعة، والصرخة تائهة. يتفرّجون على تسويات تحاك من حولهم. سفراء، دول، سياسيون، يخوضون تجربة تعويم الحكومة والعهد، بلا السنّة. كسر العهد والحكومة عزلتيهما، من لقاء بري، إلى لقاء بعبدا الذي حضره سمير جعجع، وما بينهما لقاء عون جنبلاط. بقي السنّة في عزلتهم. المقاطعة تسجيل للموقف. لكنه لا يكفي، إنما يسهم بتعميق القهر وتجذيره. رغم ما قاله الحريري بالأمس أنه لن يذهب الى بعبدا.
يعرف الرئيس سعد الحريري ما يجري من حوله. مساعي التهدئة نتاج توجّه دولي، فرضته توازنات داخلية. كان قد استبق الموجة، بلقائه الأكيد مع معاون أمين عام حزب الله. التواصل لم ينقطع مع الحزب. والحزب يسعى إلى عقد مصالحة بين الحريري ورئيس الجمهورية. وهذه المصالحة إن صحّت، فهي تعبيرعن أحلام ، تجاوزها السنّة ولبنان، ومضى عليها الزمن. الهيبة لا تستعاد بالتحاصص، ولا تستردّ كرامة بالعودة من كواليس مغلقة. قوة الزعامة، بالتواثق بين الزعامة والمتزعَّمين.
في موجة التهدئة هذه، لا يريد الحريري أن يأخذ موقفاً حاسماً، يسعى إلى ترتيب أولوياته، بدون مصارحة الناس، ولا التكفير عن قرار اقترفه ذات تشرين. يعلم أن الظرف غير مناسب لعودته حالياً، يرى أمامه اصطدام الحكومة بشروط صندوق النقد الدولي، وبمزيد من الانهيار، لتتلاقى وتتزامن مع صدور حكم المحكمة الدولية، فيستثمر بتهدئته مع حزب الله مسبقاً للعودة إلى ملعب السلطة.
يجب أن يعلم الحريري أن ما نراه هو تظهير لانقلاب يقوده حزب الله يعاونه فيه رعونة وأحقاد باسيلية وعونية، وأن الدكتور حسّان دياب يعلم أنه سيكلّف برئاسة الحكومة قبل شهرين من استقالة الحريري. قد يكون ذلك صائباً في حساب الحفاظ على التوازن، بشرط أن يقترن بمسار سياسي شعبي واضح وصريح مع الناس، مع أبناء الطائفة الأكبر في لبنان المغيّبين والمقهورين. السياسة موقف، والتأثير والتغيير واستعادة التوازن، لها قواعدها بالحضور من فوق، والناس هي التي ترفع إلى فوق، لا يمكن للعودة إلى المعادلة الوطنية أن تتمّ من تحت ولا من البحث عن نُتف ضيقة لا تتخطى جدران البيت. الموقف السياسي المتكامل بين الزعامة وشعبيتها وحده يعيد السنّة إلى المعادلة الوطنية، وحان الوقت إلى استعادة الدور بتجديد الحضور، والانطلاق بمشروع سياسي شعبي جديد، لا يبدو أن الحريري في وارد إطلاقه أو السير فيه، ولا يمكن للسنة أن يبقوا أسرى اللاحضور واللاإرادة.